خيرنا أنفعنا للناس

هذه السطور التي تناقلتها بعض مواقع الانترنت تحمل أخباراً عظيمة. فالطائفية التي زكمت رائحتها النتنة الأنوف أصبح لها مناهضين ذوي شكيمة ينددون بها على رؤؤس الأشهاد. وهذا شيء جديد على مصر. صحيح أن التسامح الديني لم ينقطع أبداً عن بلاد النيل، والتي فرض فيها هذا النهر الكريم قدراً من التسامح كان يحسدنا عليه العدو والصديق. فعندما يتكدس ملايين البشر في واد ضيق، على ضفتي شريان حياة واحد، وحين لا يكون هناك جبل يمكن أن تحتمي به أية جماعة منهم, يصبح التسامح بينهم حتمياً إذا أرادوا العيش في سعادة، لأن عدم التسامح يعني الكراهية، والكراهية تلحق الأذى بمن يشعر بها قبل أن تؤذي خصمه. صحيح أن التسامح لم ينقطع عن مصر بسبب هذه “الحتمية الجغرافية”، لكنه تراجع في السنوات الأخيرة بسبب “الحتمية السياسية”، نحن نقصد مجموعة من العوامل مثل صعود الأصولية، استخدام ورقة الأقليات لإدامة الاستبداد، غياب مجال سياسي يمكن أن يحدث فيه توافق على مشروع سياسي يضم كل المواطنين. هكذا تمدد الطائفية وكسبت أراضي جديدة يوماً بعد يوم.
الجديد إذن الذي يحمله خطاب استقالة د. سالم هو أن بعضنا أخذته الجرأة في قول الحق والدفاع عنه إلى أعلى أفاق الإنسانية. فهو لم يترك الطائفية تنتصر عليه، لأنه عندما خسر جولة أمامها أصر على مواصلة المعركة في ساحة المجتمع الواسع، حتى ولو كلفه ذلك منصبه. ماذا يستفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ يأتي سمو موقف د. سالم من أنه فسر شعار “أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً” التفسير الوحيد الممكن، وهو أن تكف يد أخاك عن ارتكاب الظلم. وإذا كان د. سالم قد افتتح النضال ضد الطائفية وسط جماعته الدينية، فلابد وأن يلحق به آخرون يتصدون للطائفية كل داخل جماعته، إسلامية كانت أم مسيحية، سنية كانت أو شيعية، أرثوذكسية كانت أم كاثوليكية. فمن السهل أن تهاجم طائفية جيرانك، لكن الأصعب والأعظم أن تناهض طائفية أهل بيتك.
كانت “الوحدة الوطنية” التي أبدعتها نخبة ثورة 1919 هي أحد أسلحة المصريين في مواجهة عدو يريد السيطرة على البلاد بحجة حماية الأقليات. ارتد السلاح إلى صدر البريطانيين عندما خرجت جموع الأقليات وراهنت على المستقبل في إطار صيغة وطنية ديمقراطية. لقد انتهينا من الاستعمار، ولكننا لم ننته بعد من استخدام الأقليات كحجة لإدامة الظلم والاستبداد. فالسلطة اليوم تتحدث بنفس اللغة التي كان الاستعمار ينطق بها، فلسان حالها يقول للمسيحيين، إما أن تقبلوني بكل ما في من خطايا وآثام، وإما البديل الإخواني الذي سيذيقكم مر العذاب. ولسان حالها يقول للمسلمين، إما أنا بكل شروري وفسادي وإما التدخل الخارجي الذي يستهدف الإسلام. لا شك أن تأجيج الطائفية هو أحد آليات تجدد واستمرار الاستبداد السياسي. لذلك فإن مناهضة الطائفية هي أحد أهم أجندة التيار الديمقراطي في مصر إذا أراد النصر. فلا تقدم إلا إذا شعر الكل أن خيرنا أنفعنا للناس، خيرنا من ينتج ويعمل ويبدع ويفيد الآخرين. خيرنا اليوم هو د. سلام، لأنه انتصر لقيمة أساسية لن يكون لمصر رفاهية إلا بها.. قيمة تقديس العمل. فالمؤسسات العلمية عليها أن تختار الأفضل علمياً من بين المتقدمين لها، بدون نظر لدين أو لجنس أو لأصل اجتماعي، فهي لا شأن لها بديانة المتقدم للوظيفة، إلا إذا كانت الوظيفة هي واعظ أو داعية ديني. أما عدا ذلك فالدين شأن شخصى يحاسب عليه الإنسان في السماء وليس على الأرض. لا شك أن موقف د. سلام هو من بشائر “مصر الجديدة” التي تولد من رحم “مصر القديمة”. فهنيئاً لمصر بالمولود الجديد، والمجد كل المجد لدكتور سلام والعار كل العار للطائفيين في كل مكان وزمان.
كتبت في الأسبوع الماضي عن شعور بعض النوبيين بالظلم، وتلقيت رسائل من نوبيين أكدت على ذلك، كما تلقيت رسائل لا تنكر المشكلة ولكنها تنكر أنها المشكلة الأهم الجديرة بالنقاش، “فمصر مستهدفة في إسلامها” كما قال أحد القراء. لذلك درءاً لهذا النوع من الردود أسارع وأشهد أن المسيحيين ليسوا هم فقط من يعانون في هذا الوطن، فهناك الفقراء، والشباب، والعاطلين، والنساء والصعايدة، والصحفيين والأطباء الخ. نعم المظالم كثيرة في هذا البلد ويجب أن نتحدث عنها كلها، لكن إنكار أن هناك مظالم طائفية في مصر هو بمثابة إنكار لكروية الأرض. “أرجو قبول استقالتى من موقع رئاسة قسم طب الأطفال احتجاجا على الممارسات المعادية لحقوق المواطنة وعلى الظلم الذي مورس أثناء امتحان ماجستير طب الأطفال ضد الباحثة ميرا ماهر رءوف الطبيب المقيم الأقدم بالقسم من قبل بعض أعضاء هيئة التدريس بسبب ديانتها، والذى كان يهدف إلى إعاقة تعيينها المستحق فى وظيفة مدرس مساعد القسم…” التوقيع د. سالم أحمد سلام، رئيس قسم طب الأطفال في جامعة المنيا.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *