إسرائيل هي الدولة الطائفية الناجحة الوحيدة في المنطقة

بعد سقوط الدولة اللبنانية في السبعينيات، تأكد أن إسرائيل لديها أفضل دولة طائفية في المنطقة. دولة مستقرة وقادرة نسبياً على تحقيق الأمن والرفاهية لسكانها في محيط عربي معادي. مشروعات الدول الطائفية الأخرى اتنتهت بحرب أهلية. لبنان، فلسطين، السودان، العراق، والبقية تأتي، وياليتها لا تأتي.
ما يحدث في فلسطين أصبح مثيراً للحزن والغم والاكتئاب. لم يكن ذلك كذلك في الماضي. كانت القضية الفلسطينية مصدر إلهام للتحرر. أتذكر أن أول فعل تمرد لي على السلطة كان بسبب فلسطين. عمري كان 10 سنوات عندما وقع السادات معاهدة السلام. وعندما فهمت في البيت أن السادات خان الفلسطينية، يعني خان شعب مظلوم، ذهبت إلي المدرسة الصباح التالي لكي أكتب على السبورة.. “يسقط السادات”. لم يسوقوني إلى المعتقل جراء ذلك، فالمعتقلات في بلادي لا تستضيف الأطفال.. حتى هذه اللحظة على الأقل. ولكن مباحث أمن الدولة تعقبتني بعد عدة أيام. كان لي زميل سادي، قال لي أن أباه ضابط في أمن الدولة، وأنه بلغ أباه عني (طفل شاطر بقى)، وأن المباحث تراقبني منذ أن كتبت ما كتبت على السبورة.

تخيلوا.. أمن الدولة يراقب طفل؟ الأغلب أنه كان بيضحك علي. هل يعقل أن يلتفت أمن الدولة لطفل؟ والغريب أن اسم والد هذا الزميل كان صموئيل. هل سمع أحد ضابط في أمن الدولة اسمه صموئيل؟ المهم أني قضيت عدة أيام أتلفت حولي لكي اتحقق من حكاية المباحث التي تراقبني. ولكن من دون جدوى، حتى نسيت الأمر. أو لعله انزوى في أعماقي. لكن الذي يظل من القصة. أن أول قلم تلقيته من أمن الدولة جاء بصدد خلافي مع السلطة على قضية فلسطين والصراع “العربي الاسرائيلي”.

استمرت العلاقة الوطيدة بيني وبين فلسطين. فأول شعر كتبته (وتقريباً الأخير) كان في الفلسطينين البواسل الذين حاربوا إسرائيل على أرض لبنان سنة 1982. وأوائل الأغاني الوطنية الجميلة والطازجة التي عشقتها هي أغاني مارسيل خليفة عن فلسطين. وكانت أول مظاهرة شاركت فيها في أوائل الثمانيات لها علاقة وثيقة بفلسطين. كنت طالب ثانوي. وكانت “القوى الوطنية” تنظم مظاهرة ضد التطبيع بمعرض الكتاب. أتذكر أن فردوس عبد الحميد كانت في المظاهرة، وأن المحرضين الذين كانوا يقودوا المظاهرة طلبوا مني ومن الناس الذين تجمعوا أن يقعدوا على الأرض! عندما حكيت لأمي في المنزل سألتني مستنكرة: “قعدوكم على الأرض؟” المهم، قعدت على الأرض لكي استمع إلى خطب مختلف أطياف “الحركة الوطنية”. الشيوعي والناصري والاسلامي. كان أغرب ما سمعت هو ما جاء على لسان إسلامي فلسطيني.. قال أن اليهود أعداء الله وأن إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكنه كان مسلماً. بعد عدة سنوات بدأت أسمع أفكار مشابهة تتردد في جامعة القاهرة التي التحقت بها. كان ذلك في سنة 1987. كان الإخوان يخرجون في مظاهرات مرددين “خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سوف يعود.” كانوا كُثر، وكان صوتهم عالي، وكانوا يسيرون في نظام شبه عسكري. وكان الطلبة ينظرون لهم بتعجب. كنت أسأل زملائي يعني إيه “خيبر يا يهود”؟ ولم أجد إجابة. ولحد دلوقتي مش فاهم يعني إيه “خيبر يا يهود”. حد فاهم حاجة؟
المهم، بفضل نشاط وهمم أخونا الاصوليين أصبحت عبارة “خيبر يا يهود” غير المفهومة هي الناظمة للنقاش السياسي عن القضية الفلسطينية، فأصبح الكل يتحدث باللاوندي عن فلسطين. ولما كنت غير عليم باللغة اللاوندية، ولما كان الكلام عن فلسطين لم يعد في معظمه ملهماً للتحرر أو للقيم الانسانية، بدأت أزهق وأتململ من الحديث عن فلسطين. وبدأت أفكر جدياُ في كلام الاخوة اللبراليين عن أن التحرك في مصر على أرضية القضية الفلسطينية يتم توظفيه بالكامل لصالح معادلة استقرار “الدولة البوليسية”. الفكرة وجيهة ومريحة إلى حد كبير. لأنها تنظر للقضية الفلسطينية من الخارج. من على أرض مصر. ونحن في الأخر مصريين. إذا كان لنا أن نغير سياسة ما، فستكون أولاً سياسة بلدنا. وفي كل الأحوال أنا جربت الخروج في عشرات المظاهرات عن فلسطين. وكانت دائماً تنتهي إلى لا شيء. بدأت أنصرف عن مظاهرات فلسطين، وأصبحت في خصام معها، ورفعت شعار.. فلنركز في قضايانا الحقيقية، ثم نرى فيما بعد ما يمكن أن نقدمه للفلسطينيين. ولكن بمرور الوقت بدأت أراجع نفسي وأتسائل. هل أنا على صواب؟ هل يمكن تجاهل القضية الفلسطينية؟ لا أعتقد، يمكن فقط إعادة التوازن للسياسة المصرية بحيث لا تقوم الانقسامات فيها فقط على أساس الموقف من القضية الفلسطينية. ها قد عدت للقضية الفلسطينية. أعتقد أني لي حق “العودة”.
مشكلتي الاساسية مع إسرائيل ليس أنها دولة ترفع شعار اليهودية. معظم دول المنطقة ترفع شعارات دينية. مشكلتي معها أنها دولة طائفية، تزعم أنها دولة الطائفة اليهودية في العالم. هي ليست دولة عنصرية، لأن اليهودية ليست عنصر وبالتأكيد اليهودية أكثر من ديانة. اليهود طائفة تحتوى على قطاع مهم غير مؤمن بالديانة اليهودية. الدولة الاسرائيلية هي أسوأ نموذج لحل مشكلة طائفة/أقلية. إنها حل الجيتو.. على الخائفين والمضطدين والمظلومين أن يشيدوا لهم معسكراً حصينا يعيشون خلفه. تأسيس دولة إسرائيل كان أحد أهم العوامل التي أججت نار الطائفية في المنطقة. ولأن إسرائيل ناجحة عسكرياً وتكنولوجياً فقد فرضت نموذج الدولة الطائفية هنا. الكل يهم لكي يبني دولاً طائفية. دولة الموارنة، دولة الشيعة، دولة الدروز، دولة السنة، الخ الخ الخ. الدولة الطائفية هي عنوان هذه المرحلة البائسة من تاريخنا.
إسرائيل تمتلك أكفأ دولة طائفية في المنطقة، دولة قادرة على حماية وخدمة طائفتها لكثير من الأسباب، منها أنها قامت على طائفة كانت مضطهدة في الكثير من دول العالم، ومنها أنها تبنت بعض المباديء العلمانية التي تجعلها من أكثر الدولة التي تساوي بين مواطنيها في المنطقة. بهذا المعنى وفقط تكون إسرائيل هي “واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”. دولة الطائفة اليهودية هي أكفأ دولة في المنطقة. لذلك هرب إليها بعض المصريين. ومن لم يهرب إلى إسرائيل هرب إلى نموذجها في الدولة الطائفية. لكن مشروع الدولة الطائفية اصطدم بالمسلمين. كيف تبني دولة طائفية على “طائفة مسلمة” بهذا الاتساع. كيف تبني دولة طائفية على جماعة بشرية ليست بطائفة وبالتأكيد ليست أقلية مضطهدة.. مفيش مشكلة.. لنجعلهم مضطهدين بالعافية. سواء باستدعاء حالات من الاضطاد الحقيقي أو المزعوم لمسلمين في العالم “الغربي”. أو بترديد أكاذيب من نوع أن الرسوم الدانمركية عنصرية تجاه المسلمين. ماذا عن ألاف الرسومات ضد المسيح في أوروبا؟ لا إجابة. أو بترديد أكاذيب من نوع أن الفلسطينيين يتم التنكيل بهم لأنهم مسلمين. طب إذا كان الاسلام هو المستهدف لماذا التنكيل بالمسيحيين الفلسطينيين؟ لا إجابة. ووصل الأمر إلى حد المسخرة عندما استطاع التيار الاصولي أن يسيد مقولة مثيرة للضحك أو للبكاء، وهي أن المسلم مضطهد في مصر اذا قارناه بالقبطي.
الشعب المصري ليس طائفة ولا مجموعة طوائف، والشعب الفلسطيني ليس بطائفة ولا مجموعة طوائف. أي محاولة لبناء دولة طائفية هنا أو هناك لابد أن يتم بالقهر والارهاب الذي لن يقارن بقهر وارهاب دولة اسرائيل. توسيع الطائفة المسلمة لكي تشمل غير المسلمين لن ينفع. إسرائيل تطلب من مواطنها – لكي يصبح درجة أولى – أن يكون يهودي حتى ولو لم يؤمن باليهودية. والاخوان يقدمون نفس العرض في مصر. كلنا مسلمون بالحضارة أو بالوطنية. ألم يقل المغفور له مكرم باشا عبيد “انا مسيحي الديانة، مسلم الوطنية”؟ لا يهم أن تؤمن بالاسلام، المهم أن تقول أنك مسلم ثقافياً أو حضارياً أو وطنياً. بهذا المعنى كلنا مسلمون. لكن هيهات. الدولة الطائفية لا تقوم إلا على الأقليات، والمسلمين ليسوا أقليات. على الأقل ليس في العالم العربي. ربما في كوسوفو.. ولكن ليس هنا. وأي محاولة لتحويلهم لأقلية ستحتاج لما فعله توفيق الدقن بعبد المنعم ابراهيم في فيلم “طاقية الاخفاء”.. توفيق الدقن يضرب عبد المنعم ابراهيم بالقلم لكي يعلن أن العلبة التي تحتوي على خاتم هي في الحقيقة فيها فيل. وهو قد اعترف بعد عدة أقلام أن “العلبة فيها فيل”. ولكني أبداً لن أعترف. العلبة فيها خاتم.. ليس فيها فيل. والمسلمين ليسوا طائفة، وبالتأكيد ليسوا أقلية مقهورة في مصر ولا في فلسطين ولا في أي مكان في العالم العربي. ولحسن حظ هذه المنطقة المنكوبة أنهم ليسوا كذلك.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *