الاعتراف بالسلطة من أجل تغييرها

تفاعلات بعض القراء الأعزاء مع مقالتي الأخيرة “حتى لا تكرر قصة هيكل مع السادات ومبارك” أثارت في ذهني مشكلة طريقة معارضتنا للسلطة. والمقصود بالسلطة هنا ليس فقط رجال الحكم، وإنما كل المواقع التي تعطي للبعض القدرة على توجيه الأخرين أو ضبط حركتهم من أول المدرس والشرطي إلى رئيس الجمهورية . العلاقة غير صحية. الشكل الأهم للعلاقة غير الصحية بالسلطة بالطبع هو الخضوع غير المشروط لها. ولكن المشكلة ليست فقط في الخضوع، فهناك أنواع من التمرد تصيب المتمرد أكثر مما تلحق الأذى بالمتمَرد عليه. كنت قد اتخذت في المقالة الأخير من الاستاذ حسنين هيكل نموذجاً للمثقف المراهن دائماً على التغييرات التي تأتي من أعلى السلطة، والذي انتهت رهاناته بالفشل. وكنت أحذر من الرهان على جناح ما في المجموعة الحاكمة. وقد عبر بعض القراء الأفاضل عن انزعاجهم لنبرة الهجوم والتمرد التي استخدمتها ضد الاستاذ هيكل، وتسائل بعضهم عما إذا كنت كارهاً لهذا الكاتب القدير. وهذا الانزعاج أحترمه وإن كنت لا أوافق على التفتيش في دوافعي لنقد هيكل وإهمال مضمون هذا النقد. فالتفتيش في الدوافع لن يؤدي إلى شيء. فلنفترض أن لدي مشكلة شخصية مع الاستاذ هيكل – وهذا غير صحيح – ماذا يغير ذلك؟ هل النقد الذي تقدمت به صحيح أم غير صحيح؟ وهل تمردي على سلطة الاستاذ هيكل تمرد بناء أم هدام؟ هذا هو السؤال.

المشكلة هنا أن هيكل رمز لشيئين مختلفين يجب التمييز بينهما.. فهو أولاً نموذج للكاتب القريب من السلطة أو الساعي للعمل كمستشار لها، وغير معني كثيراً بالمجتمع وما يحدث فيه، والدليل على ذلك أنه يكتب دائماً عن السلطة ورجالها سواء في مصر أو في الخارج، وهو على حد علمي لا يكتب عن المعارضة أو عن خصوم السلطة. ولكنه على الجانب الأخر نموذج للكفاءة المهنية والمثابرة على العمل الشاق والذوبان عشقاً في صنعة الكتابة التي أكن لها أعلى تقدير وبالتألي أكن أعلى تقدير لأساتذتها. فإذا كنت أتمرد على سلطة هيكل المعرفية لأنها قاصرة عن إفادة التطور الديمقراطي لمصر فأنا حريص على عدم التمرد على هيكل كرمز للانسان الشغال والمجتهد في صنعته حتى أخر نفس.

وهنا نأتي لقلب الموضوع الذي يعنيني اليوم. لقد شاركت في الكثير من المظاهرات في السنوات الأخيرة، وتصفحت الكثير من المدونات والرسائل الالكترونية المعارضة، وأدهشني ما في الكثير منها من تطاول وشتيمة لرئيس الجمهورية ورموز السلطة السياسية من قبل سياسيين ورائهم سنوات من النشاط والعمل. أن تأتي الشتيمة من أناس خرجوا بشكل تلقائي للتعبير عن الغضب فهذا شيء مفهوم. ولكن أن يأتي السب من جانب سياسيين محترفين أعدوا الشعارت وكتبوها في ورقة قبل أن يأتوا إلى المظاهرة أو كتبوها على الكمبيوتر “على البارد” فهذا شيء غير مقبول. ليس لدي أي شك في أن الكثير من رجال المجموعة الحاكمة يستحقون محاكمة عادلة على ما اقترفوه في حق شعب مصر. ولكن لما الشتيمة ولما السب؟ أنا لا أعترض فقط من موقف أخلاقي. المشكلة أنه من الناحية السياسية البحتة رئيس الجمهورية لا يمكن التعامل معه هكذا إلا في لحظة إسقاطه. ماذا يحدث عندما تشتم رئيس الجمهورية علنا في الشارع، ثم تنصرف لكي تمارس حياتك الطبيعية؟ شتيمة رأس السلطة بشكل علني – إذا كان لابد منها – هي “الفينالة”، هي المشهد الأخير للفصل الأخير في مسرحية إسقاط نظامه. فما رأيكم فيمن يعرض المسرحية من الأخر للأول؟ ألا يحرق هذا المسرحية؟ وماذا لو نظرنا للقضية من وجهة نظر المواطن العادي؟ ماذا سيكون احساسه وهو يرى أناس يسبون رئيس الجمهورية و غالباً يعودون إلى بيوتهم سالمين، في الوقت الذي يمكن له أن يتعرض هو للبهدلة ولقلة القيمة من أي مخبر أو صف ضابط بلا سبب مفهوم. هل يشعر ببطولة هؤلاء وضألته فينزوي إلى الاكتئاب أم بالأحرى يشك في أنهم ينفذون لعبة ما بالتعاون مع الأمن كما قال لي ذات مرة سائق تاكسي؟

المشكلة أيضاً في سب الرئيس أنه له طبيعة مزدوجة. فالرئيس مبارك هو كبير المجموعة الحاكمة، ولكنه في الوقت نفسه رئيس جهاز الدولة بموظفيه. لذلك فالتطاول على رئيس الجمهورية قد يفهم من جانب موظفي الدولة وغيرهم على أنه تطاول على كبير الموظفين، وخروج على الدولة ذاتها وليس تمرد على المجموعة التي تسيطر عليها. مثل هذا اللبس يعيدنا إلى الوراء عدة سنوات قبل نصل إلى التمييز الواضح بين الدولة المصرية ذات التاريخ الطويل والمجسدة للوحدة السياسية لشعب مصر من ناحية، وبين المجموعة الحاكمة ذات العمر القصير التي وضعتها بعض الظروف التاريخية على عجلة قيادة الدولة.

وإذا كانت شتيمة السلطة – في هذه المرحلة على الأقل – لن يأتي بشيء، فإن مقاطعتها أيضاً لن تنفع. كنت اقترحت واقترح غيري تجمع المعارضة الديمقراطية والحركات المطلبية والشخصيات العامة والكتاب والمثقفين حول مطالب لانتزاعها من السلطة. فقيل لي أن الهدف لا يجب أن يكون التفاوض مع السلطة وإنما إسقاطها. ولمن يريد أن يسقط السلطة أقول.. هل تتخيل أن هناك سلطة تسقط بدون تبدأ بتقديم تنازلات أمام حركة جماهيرية؟ هل يمكن للاعب شطرنج أن يأكل الملك قبل أن “يكششه” باديء ذي بدء. لماذا لا نتعلم من الحركات العمالية؟ ألا يضرب هؤلاء من أجل التفاوض مع الإدارة لتحقيق بعض المطالب؟ هل يمكن مفاوضة طرف بدون الكلام معه؟ أحد الأصدقاء قال لي أن تقديم مطالب للسلطة القائمة يعني عمليا الاعتراف بها. وهذا صحيح مائة في المائة. فأنا أعترف بسلطة نظام الرئيس حسني مبارك، وإن كانت لا أعترف بشرعية نظامه. من لا يعترف بسلطة نظام مبارك هو في حالة عصيان مدني، والعصيان المدني له “أمارة” مثل تمزيق البطاقة الشخصية بشكل علني أو الامتناع العلني عن تنفيذ القانون بناء على موقف سياسي (وليس عدم احترامه بشكل فردي)، وقبل كل شيء العصيان المدني هو موقف جماعي لا يتحقق إلا عندما يشارك فيه الملايين. وبما أن كل دعاوي العصيان المدني التي أطلقتها حركة كفاية وغيرها قد فشلت في السنوات الأخيرة، فلنتوقف قليلاً ولنلتقط الأنفاس ولتعترف أن هناك سلطة قائمة ولنبحث في كيفية تجميع كل القوى الديمقراطية والمطلبية في تحالف من أجل فرض مطالبها المشتركة على هذه السلطة. مع العلم بأن الاعتراف بوجود شيء اليوم لا يعني أبداً القبول بوجوده غداً. المشكلة أن ثقافة الحزب الوطني مسيطرة على السياسة المصرية. أنا لا أقصد هنا حزب الرئيس، وإنما أقصد الحزب الوطني القديم، حزب مصطفي كامل ومحمد فريد. فحينما ضغط حزب الوفد للتفاوض مع الاحتلال رفع الحزب الوطني شعار “لا مفاوضة إلا بعد الجلاء”، فرد عليه أنصار حزب الوفد قائلين وما هو هدف التفاوض بعد الجلاء؟ بعضنا لا يريد التفاوض مع السلطة القائمة الأن إلا بعد جلائها عن مصر. فليتظروا هم الجلاء ولنسعى نحن للضغط والتفاوض.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *