البديل الاشتراكي رداً على “الرفاق” الليبراليين

هل اليسار فعلاً ليس له مشروع إلا الحفاظ على الوضع القائم، على سيطرة الدولة الشمولية؟ هل مكتوب على اليسار أن يكون ورقة تلعب بها البيروقراطية، كما قال د. صلاح الدين زين، أحد اللبراليين الراديكاليين، في مقالته المنشروة في هذه الصفحة يوم الثلاثاء الماضي؟

الدكتور صلاح زين أصلاً من التيار الثوري، أي أنه له خلفية ماركسية. لذلك فالتحليل الطبقي لديه حاضر. الخطاب اللبرالي الراديكالي يقول أن الطبقة السائدة في مصر هي البيروقراطية والتي يُعرفها د. صلاح بأنها تضم من أول الوزير إلى حد الغفير، وهي في نظر اللبراليين طبقة تميل إلى التوسع والاستحواذ بلا حدود. تحجيم هذه الطبقة الشرهة الطفيلية غير المنتجة هو طريق الخلاص من الاستبداد والتخلف الاقتصادي. مشكلة هذا التوصيف أنه ينظر للوزير وللغفير باعتبارهما أعضاء في طبقة واحدة. د. صلاح لا يغفل بالطبع عن أن الوزير لا يشترك مع الغفير في مستوى ونمط المعيشة. لماذا إذن يضعهما في نفس الخانة؟ ربما يفعل ذلك بناءً على معايير سياسية.. لأن الوزير والغفير بينهما تحالف سياسي مستمر داخل إطار الدولة. ولكن المشكلة هنا أن ذلك التحالف ينفض منذ وقت طويل.. من بعد هزيمة 1967 التي أعقبتها تحركات نشطة من عمال الدولة ومن طلاب في جامعات الدولة، وصلت إلى ذروتها في مظاهرات يناير 1977. لقد حاول مبارك أن يرمم هذا التحالف بين الوزير والغفير، ولكنه في الحقيقة كان ينظم ويدير عملية فض التحالف لكي تتم بشكل سلس بناءً على منطق أمني صارم، يخفف من الآثار السياسية السلبية لفض التحالف، والمتمثلة في خطر نجاح قوى سياسية معارضة في حصد بعض “الغفراء” الذين ألقى بهم خارج التحالف. لقد حصد التيار الإسلامي بعضاً منهم، بالذات العاملين في الأجهزة الدينية للدولة، وحصدت تيارات أخرى بعض الفتات. لكن قطاع هائل من الغفراء ظلت على ولاء شكلي للوزراء، ولكنها في الحقيقة تُصرف أمورها بنفسها.. من البقشيش، من الرشوة، من الزوغان والعمل على تاكسي، الخ. الفئات التي لم تفلح فيها الشطارة الفردية، مثل عمال القطاع العام، وموظفي الضرائب العقارية كان البديل لها هو التحرك الجماعي لتصحيح الأوضاع. حالة التعايش بين البيروقراطية العليا والدنيا تتخلخل، خاصة أن البيروقراطية العليا تتبرجز، أي تتشبه بالبورجوازية. الوزير والغفير إذن في حالة خصام. وبعض الغفراء يتحركون في الشارع. هل يصح إذن القول بأن هناك طبقة بيروقراطية سائدة وحاكمة تضم الوزير والغفير؟

المشروع اللبرالي الجذري يقوم إذن على فكرة تحالفات سياسية مناهضة للبيروقراطية. المشكلة أن الطبقة البورجوازية ليست في حالة تمرد سياسي على سلطة البيروقراطية. هي يمكن أن تلعنها في السر وأحيانا في العلن، ولكنها غالباً لن تدخل في تحالفات ضدها مع شرائح اجتماعية أخرى. البورجوازية المصرية وحيدة، ويبدو أنها ستظل وحيدة. المشروع الذي ينجح عادة في إقامة وحدة سياسية بين البورجوازية وشرائح أخرى هو مشروع تحرر وطني. فهدف مقاومة الاستعمار هو المبرر الأساسي الذي يجعل من الشرائح الأقل حظاً تقبل تأجيل تناقضاتها مع الفئات العليا. ولكن البورجوازية المصرية الآن ليست في حالة مقاومة استعمار، فالاستعمار قد رحل. الموجود الان هو نفوذ وهيمنة أجنبية لن تناهضها البورجوازية الكبيرة، فهي تحلم بالشراكة مع رأس المال الأجنبي. حتى قطاعات البورجوازية التي تتذمر من الهيمنة الأجنبية هي لن تقاومها على أرضية مناهضة الامبريالية والاستغلال، ولكن على أرضية الحفاظ على الهوية ومقاومة التهويد، وما شابه ذلك. “المشروع القومي” الجامع للكل إذن منتفي. لهذا البورجوازية طبقة وحيدة سياسياً، ولذلك ستظل على ارتباط بالبيروقراطية العليا. وهنا نصل إلى مربط الفرس.. المشروع اللبرالي الجذري المناهض للبيروقراطية ليس له أرضية طبقية صلبة. هو يمكن أن يلعب دوراً في تحسين شروط التفاوض بين البورجوازية والبيروقراطية العليا. والتيار اللبرالي هنا متسق مع ذاته. فهو مؤمن أن الرأسمالية قوة تقدمية. ولكن اليسار وضعه مختلف. هو ورث عن ماركس فكرة الرأسمالية التي تمارس دوراً تقدمياً رغماً عنها. الرأسمالية تقدمية ليس بما تحمله من مشروع، ولكن بما تخلقه من تربة خصبة لمشروع أخر، من صنع ناس آخرين. اليسار ينظر إلى الرأسمالية وإلى البيروقراطية العليا باعتبارها طبقات مستغلة. وإذا كان لليسار أن يؤثر في الصراع الداخلي بينهما، فالانحياز لطرف على حساب الطرف الأخر سيكون محكوماً بمعايير واضحة، وهي المكاسب الذي سيحصل عليها المنتجون اقتصادياً أو سياسياً. وهنا أختلف مع د. صلاح. فتوظيف اليسار في الاحتكاكات التي تنشب بين البيروقراطية والبورجوازية لصالح البيروقراطية العليا صعب جداً. ما حدث في الستينيات صعب أن يتكرر اليوم. السياق مختلف تماماً، ثم أن اليسار تغير والبيروقراطية نفسها تغيرت وتبرجزت.

قد نتفق أن أحد مشاكل مصر الأساسية التي يضع التيار اللبرالي يده عليها هي توحش البيروقراطية المصرية. لكن الانتقاد المرير للبيروقراطية لا يجب أن يؤدي بنا إلى الاستخفاف بفكرة الدولة وأهميتها. فكلنا نعاين يومياً مشكلة ضعف الدولة المصرية. الدولة لا يمكن تلخيصها في البيروقراطية، أي في العاملين بها. الدولة مؤسسة.. الدولة هي الوظائف الحاضرة أو الغائبة التي تؤديها البيروقراطية نيابة عن المجتمع ككل، وأهم وظيفة هي حفظ تماسك المجتمع والحيلولة دون أن تتحول المنافسة والصراع فيه إلى حروب أهلية. مركزية الدولة وأهميتها، خاصة في مصر، لا يريد التيار اللبرالي أن يعترف بها إلا باعتبارها اللعنة التي حلت بمصر، سواء بسبب الطابع التاريخي النهري للمجتمع أو بسبب التراث التدخلي من أيام مؤسس نسختها الحديثة محمد على باشا أو بسبب التضخم الذي لحق بها على يد أحد أبناءها وهو البكباشي جمال عبد الناصر.

الدكتور صلاح زين يسأل، ما هو المعادل السياسي لمشروع المنتجين الأحرار في الاقتصاد الذي يدعو إليه بعض اليسار؟ هل هي دولة البروليتاريا؟ في الحقيقة السؤال يتعلق بالأجل الطويل. وهنا ليس لدي إجابة. ولست أدرى إذا كان من الضروري الآن وضع تصور مستقبلي إلى هذا الحد. المهم الآن أن الديمقراطية البرلمانية تعتبر خطوة هائلة إلى الأمام بشرط ألا تحرم الطبقات العاملة من الحق في التنظيم السياسي على أساس طبقي. إن دخول شرائح المنتجين الأحرار الساعين للدفاع عن مصالحهم إلى المجال السياسي كفيل بنقل السياسة المصرية إلى مرحلة جديدة. وهذا للأسف ما لم تقبله اللبرالية قبل 1952، وهذا ما أوقعنا في فخ الصراع على الهوية وفي فخ نمو الأصولية والميول الفاشية وهذا ما أعاق تطور مصر لفترة طويلة. الدكتور أسامة الغزالي حرب – وهو أيضاً ليبرالي من أصول ماركسية – يقول أن الصراع الأساسي في المرحلة المقبلة سيكون بين التيار اللبرالي والأصولي، وما عدا ذلك من تيارات قومية ويسارية هي ديناصورات من الماضي. ما هي الحكاية؟ هل يفضل اللبراليون خصومة الأصوليين وربما الفاشيين على خصومة أهل اليسار؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *