الجيش والعنف الشرعى ومصير المرحلة الانتقالية

اجتهدت فى الأسبوع الماضى لكى أخرج من الحزن والصدمة جراء مأساة الأحد الدامى بماسبيرو ولكى أتوصل إلى حقيقة ما حدث ومكان هذا الحدث فى الصورة العامة للمرحلة الانتقالية والتى يعد المجلس العسكرى الطرف الأهم الذى يحدد إيقاعها ومسارها. أود أن أشارك القراء الأعزاء فى النتائج التى توصلت إليها، مع البدء بالتشديد على أن كاتب هذه السطور يقول ما استقر فى عقله وضميره من نتائج فى ظل غياب الكثير من المعلومات. وبالتالى ما أقوله مستعد لنقده والتراجع عنه فورا فى حال تكشف أبعاد ومعلومات جديدة عن الحدث وعن غيره من أحداث العنف فى المرحلة الانتقالية.

أظن أن قوات الشرطة العسكرية الموجودة فى ساحة ماسبيرو قد صدرت لها أوامر بفض المظاهرة السلمية بالقوة، وهو الأمر الذى أدى إلى مقتل عشرات الشباب من المدنيين والجنود وإلى إصابة المئات الآخرين منهم. صاحب قرار فض المظاهرة بالقوة الذى لا أعرفه هو المسئول الأول عن الدماء التى سالت وعن التوتر الطائفى البشع الذى أعقب هذه الأحداث. فهل ستكشف التحقيقات الحكومية عن هوية من أصدر هذه الأوامر؟ أشك. لن يكشف عن ذلك إلا جهة تحقيق مستقلة عن السلطة الانتقالية. فمن غير المنطقى أن يجرى المتهم ــ السلطة الانتقالية ــ تحقيقا مع نفسه. لماذا كان قرار فض المظاهرة بالقوة قرارا خاطئا يستحق عليه صاحبه أشد العقاب؟ أولا لأن التظاهر السلمى حق مشروع حصل عليه الشعب المصرى بدمه فى ثورة مجيدة وأى تجميد أو تعطيل لهذا الحق هو بمثابة انقلاب على الثورة لأنه بدون تظاهر سلمى سنفقد أحد أسلحتنا الرئيسية فى مقاومة الظلم والفساد. ثانيا لأن فض مظاهرة بهذه الحجم فى ساحة ضيقة مثل ساحة ماسبيرو لا يمكن إلا أن يؤدى إلى كارثة مروعة مثل التى وقعت. هذه الأوامر فى الحقيقة صدرت عن جهل وعن عدم اكتراث بأرواح المواطنين من المدنيين والجنود.

ولكن لكى نفهم مغزى مأساة الأحد الدامى يجب أن نحدد بدقة البعد الطائفى للحدث بحيث لا يطغى فتضيع صورة المشهد المعقد الذى تشكل الطائفية أحد أبعاده ولكن ليس كل الأبعاد. بالتأكيد شاب سلوك قوات الشرطة العسكرية التى واجهت المتظاهرين حسا طائفيا، وهو الأمر المثبت على شاشة التليفزيون الرسمى الذى حاور بعض الجنود المصابين. هذا البعد الطائفى لا يمكن أن يثير دهشة أى شخص عاقل يعيش فى هذا البلد ويعرف كيف اخترق التعصب الطائفى قطاعات واسعة من الشعب وكيف اجتاح العديد من مؤسسات الدولة. الجنود والضباط هم جزء من هذا الشعب، والجيش هو أحد مؤسسات الدولة التى تستمد طاقتها البشرية من الشعب. وبالتالى من الطبيعى أن يتسلل الوعى الطائفى إلى الجيش. السؤال المهم، ماذا نفعل لحماية هذه المؤسسة الوطنية من السقوط فى مستنقع الطائفية؟ إن الدولة الوطنية والجيش الوطنى هما أعز ما يملك الشعب المصرى فى منطقة مليئة بجيوش تسيطر عليها طوائف أو قبائل مثل جيوش سوريا، وليبيا والعراق وغيرهم. إنها حائط دفاع أخير وفى وقت تحاول فيه بعض القوى المتعصبة أن تتسيد على الشعب المصرى من خلال تحويل مسلمى مصر إلى طائفة مذعورة من شبح وهمى هو الأقليات. هذا الموضوع المفصلى سأتركه إلى فرصة قادمة.

***
ما لا يجب أن يضيع وسط غبار البعد الطائفى للحدث هو موضوع السياسة والعنف فى مصر. الدولة بالتعريف هى جهة تمارس العنف الشرعى، وهى لن تكون دولة بدون أن يكون لها شرطة مسلحة قادرة على فرض القانون بالقوة المادية فى مواجهة الخارجين عليه. كل الدول تستخدم العنف ضد بعض مواطنيها. الفارق بين الدولة الديمقراطية والدولة المتسلطة الغاشمة هى أن الأولى تستخدم العنف باقتصاد شديد فى حالة الضرورة وفى إطار القانون بينما الثانية تفرط فى استخدام العنف وتمارسه خارج القانون. والفارق الثانى هو أن الدولة الديمقراطية لديها أدوات أخرى فى ضبط الأمور مثل الإقناع والتفاوض، بينما الدولة الغاشمة تعتمد أساسا على العنف لأنها غير قادرة على إقناع أحد.

لقد ذهبت مصر فى العقود الأخيرة إلى تزايد مرعب ومأساوى فى استخدام الدولة للعنف كأداة للإدارة السياسية. وقد أعُطيت الشرطة حصانة شبه مطلقة فى ممارسة التعذيب وأحيانا القتل ضد مواطنين. فلم يقف أمام العدالة إلا أقلية لا تذكر من ضباط وأفراد الشرطة الذين عذبوا وقتلوا. بل أن أجهزة الدولة قد تمادت فى استخدام العنف غير الشرعى حين لجأت إلى «القطاع الخاص» لكى تدير عشرات الآلاف من العناصر الإجرامية ولتمارس بواسطتهم العنف فى الانتخابات وفى غيرها. فالعنف المطلوب بات يفوق قدرة أجهزة الأمن وأصبح من الضرورى أن يدخل فيه القطاع الخاص.

جاءت ثورة يناير المجيدة لتكسر شوكة أجهزة الأمن ولكى تطيح بحصانتها. هكذا يقف الآن وزير الداخلية أمام العدالة متهما بقتل المتظاهرين. بل إن الأمر طال رئيس جمهوريته. فى هذا السياق من الطبيعى أن يتردد أفراد وضباط الشرطة فى استخدام العنف. وهذا ما أظن أنه السبب وراء «الإضراب» غير المعلن للشرطة عن ممارسة مهامها. فهى لم تتعلم إدارة الأمور إلا بواسطة العنف المفرط وغير القانونى وهى بالتالى عاجزة الآن عن ممارسة مهامها الطبيعية. وهنا يبدو أن السلطة الانتقالية ــ المنبثقة عن النظام القديم والحاملة لفيروس التسلط ــ لجأت إلى استخدام قوات الشرطة العسكرية التى لديها حصانة قوية بحكم أنها لا تحاكم إلا أمام محاكم عسكرية، وهكذا شهدنا فى الشهور الماضية جرائم يندى لها الجبين من تعذيب للمواطنين ومن انتهاك لكرامتهم الإنسانية ومن إخضاع البنات لكشوف عذرية هى فى الحقيقة انتهاك للأعراض. إن قوات الجيش هنا هى ضحية السلطة الانتقالية مثلما كانت قوات الشرطة هى ضحية نظام مبارك. لكن المأساة لم تقتصر على إقحام الجيش فى ممارسة العنف ضد الشعب، لكن السلطة الانتقالية تمادت ولجأت بشكل مؤسف إلى إعادة تشغيل عصابات البلطجة التى رباها ورعاها النظام السابق لكى ستكمل بهم مقتضيات ممارسة العنف الذى لا تقدر عليه الشرطة العسكرية. وقد كان هؤلاء هم أبطال مأساة بالعباسية الشهر الماضى حين سحقوا مظاهرة سلمية حاولت الوصول إلى مقر وزارة الدفاع. كما شهدناهم أخيرا فى أحداث ماسبيرو وإن كان بشكل أقل من العباسية حين قاتلت عصابات منهم إلى جوار قوات الشرطة العسكرية.

إن الانفلات الأمنى وانتشار البلطجة ــ كما أظن ــ ليس منبعه «مخطط» من جانب المجلس العسكرى لكى يخلق حالة من الفوضى تبرر له البقاء فى السلطة كما يصر العديد من الأصدقاء والزملاء. فمصلحة المؤسسة العسكرية تكمن فى الانسحاب الجزئى (غير التام) من السلطة وتسليمها إلى سياسيين مدنيين. انتشار الانفلات الأمنى والبلطجة منبعه فى ظنى أن السلطة الانتقالية تحتاج إلى استخدام العنف فى إدارة المرحلة الانتقالية لأنها لا تعرف استخدام أدوات الإقناع أو لأن العنف لازم لكنى تنتهى المرحلة الانتقالية بالشكل المرضى لها أو لكلاهما معا.

***
الوعى العام يتسامح مع عنف الدولة بل ويتمناه أملا فى يقلل من العنف السائد فى المجتمع. ولكن فى الحقيقة عنف الدولة وعنف المجتمع وجهان لعملة واحدة وهما مرتبطان بشكل وثيق. أولا لأن البلطجة المنظمة تعمل تحت إشراف أجهزة الدولة وتُدار بشكل سياسى. ثانيا لأن انتشار ثقافة العنف بشكل عام المجتمع كله إلى دائرة العنف والعنف المضاد. وبالتالى لا سبيل للسيطرة على العنف والبلطجة فى مصر بدون مقاومة العنف ذاته، بكل أشكاله، من جانب الدولة أو من جانب المجتمع إلا ذلك العنف الذى ينص عليه القانون العادى. أما قانون الطوارئ فهو غير موجود لأن ثورة يناير أسقطته وأى محاولة لإحيائه هى خروج عن الشرعية. من حق كل مواطن أن يتمتع بحماية القانون العادى حتى ولو كان هذا المواطن هو حسنى مبارك وحبيب العادلى.

الوعى العام يتسامح مع العنف رهانا على أن تلك مرحلة انتقالية ستنقضى لنبدأ صفحة جديدة. المشكلة أن السلطة الانتقالية بجناحها العسكرى القائد هى غير خبيرة فى استخدام العنف على المستوى الداخلى الأمر الذى من الممكن أن يهد المعبد على كل من فيه. فلننتبه.. القضية ليست مسألة انتهاكات لحقوق الإنسان. القضية هى مرحلة انتقالية قد تدفع بنا إلى الفوضى وإلى مأساة تقضى على فرص هذا البلد فى التقدم والرخاء لسنوات طويلة ويدفع ثمنها أساسا أطفال وشباب هذا البلد.

إننا نسير بسرعة تجاه انتخابات برلمانية لن يكون لها أى قدر من المصداقية والشرعية إذا مورس فيها العنف على نطاق واسع وإذا لم تتخذ لها إجراءات فورية للسيطرة على عصابات الإجرام المنظم أو على الأقل للامتناع عن استعانة السلطة الانتقالية بهم. إن أغلبية الشعب وقواه السياسية مسالمة ولا تمتلك أدوات للعنف. وبالتالى فإن إدارة العملية الانتخابية بالعنف سيقصيها من العملية الانتخابية وسيضع فى البرلمان فقط من يقدر على استخدام العنف أو من يستطيع مواجهته، وهؤلاء ليسوا ممثلين إلا لقطاع صغير من الشعب المصرى.

***
فلنتعاهد على مقاومة العنف، كل العنف، حتى لو مورس ضد خصومنا السياسيين. فالعنف حينما يستشرى لا يفرق بين يسارى أو ليبرالى أو إخوان مسلمين أو سلفي. فلنتذكر ضحايا وشهداء نظام جمال عبد الناصر ومبارك والسادات. فلنتعاهد على عدم قبول الاستمرار فى معركة الانتخابات إذا تبين أن الدولة ستمارس العنف أو ستتسامح معه.

ولنراهن على الخبراء فى الأمن والعاملين فى حقوق الإنسان لكى يفيدونا بتقييم الحالة الأمنية وعلى أساس ذلك يكون قرار مقاطعة الانتخابات قرارا سليما إذا دعت الضرورة. ولينتبه من يمارس العنف خارج القانون. الأيام دول. وكما أسقط الشعب حصانة حبيب العادلى وحسنى مبارك فهو قادر على نزعها عمن يمارسون العنف الآن ضد الشعب.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *