الحكومة تزيد من الإنفاق العام.. لماذا؟

الموازنة العامة للدولة هذا العام لم تشذ عن النمط العام لميزانيات الدول (ديمقراطية أو استبدادية) التي تميل إلى التضخم في سنوات الانتخابات. في هذا “الموسم” تضخ الحكومات الأموال في الاقتصاد – حتى ولو بالاقتراض – حتى تقوم بإنعاش الأسواق ليكون المناخ العام ملائما لبقائها في السلطة. في موازنة 6/2005 سيزيد الإنفاق العام بنسبة 13% بالأسعار الجارية، وستزيد الأجور بنسبة 15%، وسيزيد الدعم بنسبة 72%، وسيزيد الدعم الممنوح للهيئات الاقتصادية بنسبة 40%. هذه الأموال ستذهب أساساً إلى فئتين اجتماعيتين هما الموظفين وبعض الفقراء. ولكنها لن تذهب بشكل متساوي. فأجور العاملين بالدولة تتفاوت بشكل مذهل، كما أوضح تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الذي يصدر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
الحكومة تتبنى سياسة توسعية منذ عدة سنوات لمقاومة الكساد الذي يسيطر على الاقتصاد المصري. المشكلة أن جزءاً متزايداً من نمو الإنفاق العام يأتي من الاقتراض. وفقاً لوزارة المالية سيبلغ العجز في موازنة العام الحالي 60 مليار جنيه، أي 9،4% من الناتج المحلي الإجمالي (غالباً أكثر) بعد أن كان متوسط العجز الفعلي الصافي خلال التسعينات حوالي 2% وفقاً للحساب الختامي للموازنة. وبذلك يتأكد عاماً بعد عام أن العجز المالي الذي دخلت فيه الدولة المصرية في نهاية التسعينات ليس بالشيء العارض، ولكنه راجع لعوامل هيكلية ضاربة العمق في بنية مالية الدولة. لم يكن نجاح الحكومة في تخفيض العجز في الموازنة بعد تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي سنة 1991 إلا هدنة عادت بعدها مالية الدولة إلى الأزمة. يبدو أن هناك ميل دائم للمصروفات أن تفوق الإيرادات. والحكومة عاجزة هنا عن تخفيض المصروفات أو زيادة الإيرادات بشكل محسوس. علام تراهن الحكومة؟ هي تقول أن قانون الضرائب الجديد سيستطيع إقناع رجال الأعمال وأصحاب المهن الحرة من أطباء ومهندسين وغيرهم بالتعاون وعدم التهرب من الضرائب. وفي سبيل ذلك قامت الحكومة بتخفيض أسعار الضرائب على الأرباح الصناعية والتجارية وعلى أرباح المهن الحرة إلى 20%. الفكر المالي الحديث يقوم على المعادلة الجهنمية التالية: إذا أردت أن تزيد من إيراداتك الضريبية يجب أن تقلل من أسعار الضرائب. فتخفيض الضرائب لا يساعد فقط في تشجيع رجال الأعمال على الالتزام بدفع الضرائب، ولكنه يساهم أيضاً في زيادة النمو الاقتصادي والتشغيل ومن ثم عائدات الضرائب.
لكن لكي تتحقق تلك المعادلة في مصر يجب أن يتعاون رجال الأعمال بالفعل ويدفعوا ما عليهم من ضرائب. والحقيقة أن ذلك لا يتوقف فقط على أسعار الضرائب، ولكن أيضاً على ثقة دافع هذه الضرائب أن ما يدفعه لن يضل طريقه بعيداً عن الأغراض التي من أجلها تستقطع الدول ضرائب من مواطنيها. أغراض مثل إقامة البنية الأساسية وتقديم خدمات الدفاع والعدالة والأمن والتضامن الاجتماعي. لهذا يميل الفكر المالي إلى الاعتقاد أن الضرائب لها علاقة مباشرة بالديمقراطية. فبالديمقراطية يستطيع المواطن الاطمئنان إلى أن ممثليه في الهيئات المنتخبة يقومون بالإشراف الفعلي على الإنفاق العام.
والأمر يتطلب أيضاً جهاز ضريبي حديث، وكفء وأمين لكي يستطيع الوصول إلى دافع الضرائب ولو اختفى بين الشقوق في محاولته للتهرب. وزير المالية نفسه كان قد علق نجاح قانون الضرائب الجديد على القيام بإصلاحات داخل مؤسسات الدولة الضريبية. وقد أعلنت وزارة المالية بالفعل أنها ستنشأ جهازاً ضريبياً خاصاً للتعامل مع رجال الأعمال. يسير هذا في نفس اتجاه الحكومة إلى تحاشي الإصلاح الشامل لجهاز الدولة وتركيز الجهد على قطاعات بعينها داخل المؤسسات. عادة يؤتي هذا الحل بنتائج سريعة، ولكنها على الأغلب تكون ضعيفة. لأن جهاز الدولة بشكل عام يظل على مستواه المتردي، ولأن التركيز على قطاعات بعينها ليس بوسعه إلا زيادة الأحقاد بين العاملين بالدولة ومن ثم تأجيج الصراع الداخلي الحاد الذي يميز البيروقراطية المصرية في العقدين المنصرمين.
إذا استطاعت الحكومة أن تزيد من إيراداتها الضريبية سيكون باستطاعتها أن توقف النمو السرطاني للدين العام وبذلك تنجو.. أما إذا فشلت الحكومة في تخفيض العجز في السنوات القادمة سيكون الخطر هو الغرق. ولكن الحكومة لن تغرق وحدها ولكن الدولة ستغرق معها. وهو الأمر لابد وأن يقلق الكثيرين: تصوروا مئات الآلاف من الموظفين ينزلون إلى الشارع لمطالبة دولة مفلسة بدفع رواتبهم!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *