الرسالة وصلت يا نصر الله نعم. انها البورجوازية الصغيرة المذعورة

يسري نصر الله لقط في فيلمه الأخيرة روح السياسة المصرية. برع في الكشف عن الهيكل العظمي المتخفي وراء الشحم واللحم. نجح في أن يمسك بدوافع الشخصيات التي تتخفى وراء أقنعة الكلام المنمق. الفن مثل الأشعة قادر على النفاذ إلى ما وراء السطح. تحية إلى الفنان يسري نصر الله، خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. حقاً العلم نور.

نعم اتفق مع يسري نصر الله في أن السياسة المصرية قائمة على الخوف والإرهاب. نعم أتفق مع المشهد الأخير من فيلمه “جنينة الأسماك” والتي أطلق فيها صاحب مزرعة فراخ، فراخه المصابة بأنفولونزا الطيور إلى الشارع. نعم أتفق مع قرائته للهاجس المسيطر على شخصياته في الفيلم.. الذعر. بالتأكيد الإرهاب والتخويف يسيطر على الخطاب السياسي المصري. السلطة تعمل على إثارة الذعر من الفوضى ومن المغامرات غير المحسوبة والصبيانية للمعارضة وقبل كل شيء من بعبع السياسة المصرية الإخوان المسلمين. اليسار يعمل على إثارة الخوف من الامبريالية ومن تقدم الرأسمالية والنيوليبرالية. والليبرالية الراديكالية تعمل على إثارة الذعر من الدولة ومن العروبة و”الغزو العربي” لمصر.. الغزو القديم البدوي، والغزو الحديث النفطي. والتيار القبطي يعمل على إثارة الذعر من كل يخيف اللبراليين مضافاً إليه “خطف” البنات المسيحيات و”الأسلمة القصرية” وخلافه. والتيار الإسلامي يعمل على إثارة الذعر من الانحلال والفضيحة ومن التنصير والتهويد والكفر ومن الهجمة الشرسة على الاسلام والمسلمين. والتيار الناصري يعمل على إثارة الذعر من الاختراق الاسرائيلي/اليهودي ومن التطبيع ومن الجناح الساداتي في السلطة الذي يعمل بهمة ونشاط في هدم الدولة الناصرية الاشتراكية العربية.

كله شغال سياسة على منطقة الذعر. لماذا؟ الإجابة بسيطة. ايديولوجية الطبقة السائدة هي الايديولوجية المسيطرة. من هي الطبقة السائدة؟ هي البورجوازية الصغيرة. سائدة فين؟ سائدة بأفكارها في أعلى السلطة وبأجسادها في المجال العام، في السياسة الواسعة. البورجوازية الصغيرة سيطرت على الميكروفون ليس فقط في الجامع والكنيسة ولكن في الإذاعة والتلفزيون والجرائد والقهاوي والمطاعم والبارات والأحزاب والنقابات.
ما هي البورجوازية الصغيرة؟ البورجوازية الصغيرة بورجوازية.. فهي تشغل لديها ناس تشغيلاً ثابتاً أو مؤقتاً. وهي تعمل أساساً في التجارة والخدمات. والبورجوازية الصغيرة صغيرة. صغيرة ليس فقط في الحجم ولكن في قدرتها على المنافسة. لأن قوانين السوق متحيزة للحجم الكبير. الأحجام الكبيرة قادرة على المنافسة سواء لأنها تنزل بالتكلفة أو لأنها قادرة على تعبئة خدمات مساندة للأعمال مثل الخدمات المصرفية والمالية والسياسية. البورجوازية الصغيرة مذعورة إذن لأنها صغيرة وسط كبار.. كبار موجودين أو قادمين. الخوف يدفع الناس للهستيريا والكذب. لذلك فهيستيريا الكذب تسيطر على البورجوازية الصغيرة. كل شيء مباح لوقف تقدم الرأسمالية الكبيرة. نقول عليهم ناقصي الإسلام ماشي، يهود شغال. نصارى وتبشيريين مافيش مانع. مشاركين في هجمة شرسة على الإسلام والمسلمين أوكي. وكل شيء مباح لتشغيل العمال بأجور متدنية. ابتزازهم بالدين ماشي. إجبارهم على الدوس على كرامتهم وطلب “الشاي” من الجمهور مفيش مانع. في “الزمن الجميل” كان البقشيش مقتصراً على عمال المطاعم. اليوم البقشيش أصبح الدخل الأساسي للعاملين لدى البورجوازية الصغيرة في معظم القطاعات.

فكر البورجوازية الصغيرة المذعورة مسيطر على المجال العام لأنه لم يجد من يعريه. من يحاصره في ركن مضيء ويطالبه أن يخلع قناعه وأن يتكلم لغة المصالح. نقد البورجوازية الصغيرة في أفكارها المتخلفة وفي ممارساتها الدينية المتزيدة لا يكفي وهو لم ينفع طوال العقود الأربعة الماضية. ذلك لأنه نقد سطحي، لا يعادي فكر البورجوازية الصغيرة في الجذر. نقد التزيد في الدين لهذه الطبقة ليس هو الموضوع. الاستاذ هشام جعفر نفسه – رئيس تحرير اسلام اون لاين – قال أن مصر بها فائض تدين. وفائض التدين هذا يعود إلى أزمة البورجوازية الصغيرة الناتجة عن تقدم العلاقات الرأسمالية المتحيزة للحجم الكبير. نقد هذه الطبقة يجب أن يتوجه إلى شيئين.. استغلالها البشع للعاملين لديها. ولجوئها إلى وسائل غير قانونية وإلى الضرب تحت الحزام في المنافسة على السوق.

البورجوازية الصغيرة هي الطبقة القائدة للمجتمع. فالبورجوازية الكبيرة في مصر قادمة جزئياً من هذه الطبقة. البورجوازية الكبيرة صغيرة في أصولها وصغيرة في فكرها. ومن لم يصعد من البورجوازية الصغيرة على الأقل أرسل أولاده للتعليم الجامعي. وهؤلاء أصبحوا عماد الطبقة الوسطى الحديثة. التغيير الدراماتيكي الذي شهدته مصر منذ السبعينيات يرجع في جزء كبير منه إلى حقيقة أن الطبقة البورجوازية الصغيرة أحكمت قبضتها على منظمات الطبقة الوسطى الحديثة مثل الأطباء والمهندسين والصحفيين والعسكريين. وتحولت نقابات الطبقة الوسطى إلى طوائف حرفية. فيها الأسطوات الكبار والصبيان الصغار الخاضعين والمنتظرين لأول فرصة لكي يصبحوا أسطوات. وهذه الطوائف الحرفية تعمل بأصول العصور الوسطى، من تجريس وضرب أي قادم جديد للحرفة ممكن أن يهدد المسيطرين عليها. هكذا وصلت المسخرة بنقابة الممثلين أن تحاول تقليص فرصة الممثلين العرب. لماذا؟ لأن الممثلات العرب منحلات. يا للفضيحة. احنا وصلنا للدرجة دي. نعم وصلنا ولما لا؟ كل شيء مشروع طالما القضية هي الصراع على السوق والنجاة من الغرق. كل شيء مشروع في المنافسة.. ضرب الخصم في أخلاقه، في دينيه، في حرماته الجنسية. أي حاجة. اللي تكسب به العب به. يا للقبح.

ولكن لا. فليسقط حكم البورجوازية الصغيرة. فليسقط حكم الفراخ المذعورة. من فيلم نصر الله بدأت ومن نفس الفيلم أنتهي. المشهد الأخير فيه انطلاق الفراخ المذعورة والمصابة بالألفوانزا إلى الشارع، بحيث أصبح الشارع كالح البياض في لون الفراخ البيضاء. ولكن الفراخ السمراء البلدي لم تقل كلمتها بعد. ربما في الجزء الثاني من الفيلم. الفراخ البلدي قليلة العدد، لكنها سليمة العضلات. فهي لم تنحشر في بطاريات ضيقة خانقة ولم تأكل من العلف التافه الذي يطعمونها أياه. إنها فراخ طليقة. تجري في المنازل والأحواش، وتأكل خضراوات وبقول.. صحيح هي تأكل الفضلات، ولكن أكل فضلات الخضروات والبقول في الحرية أفضل من أكل العلف التافه في بطاريات المزارع. كل سنة وعمال مصر وشغالينها الحقيقيين بخير.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *