امر سليمان

أتابع مقالات الاستاذ مجدي خليل – مدير منتدى الحريات بالشرق الأوسط. مجدي هو نموذج للمثقف العضوي المنتمي لجماعة. وهو يضع علمه وثقافته في خدمة قضايا هذه الجماعة. الجماعة المنتمي لها مجدي هم الأقباط الذين يعانون من انتقاص الحقوق. مجدي إذن يدافع عن قضية عادلة. وإيمانه بعدالة قضيته وتفانيه في خدمتها يشعر به المرء في كل كلمة يكتبها. والحق يقال أنه لعب دوراً أساسياً في الارتفاع بوعي الاقباط السياسي. أبدأ بهذه المقدمة حتى أخذ راحتي في نقد مجدي فيما يخص دعوته للتمييز الإيجابي لصالح الأقباط، وحتى أميز نفسي عن “كورس” الهجوم الذي يشنه بعض الطائفيين عليه.

مجدي يصر منذ عدة سنوات على أن أحد أهم الحلول لمشكلة تهميش الأقباط في الوظائف العامة هو اتباع سياسة التمييز الإيجابي، أي تخصيص نسب حد أدنى للأقباط في مؤسسات الدولة المختلفة لكي تصل نسبتهم فيها إلى ما يقارب نسبتهم في السكان. استناداً على بعض الاحصاءات المتوفرة عن عدد المسيحيين في بعض مؤسسات الدولة السياسية والإدارية والأمنية، اتفق الباحثون في الشأن الطائفي على أن نسب المسيحيين في مؤسسات الدولة أقل بكثير من نسبتهم في السكان، سواء كانت تلك النسبة 6% كما يقول البعض أو 10% كما صرح أخيراً مسئولون في الحكم مثل أسامة الباز وعائشة عبد الهادي. لقد كتب الاستاذ عادل جندي الباحث في الشأن الطائفي مجموعة من الدراسات الموثقة، منها واحدة عن نسبة المسيحيين بين أساتذة جامعة أسيوط، تلك المحافظة التي تحتوي على نسبة أقباط تتجاوز نسبتهم العامة في مصر. استناداً على الدليل الرسمي لجامعة أسيوط توصل الاستاذ عادل إلى أن نسبة المسيحيين في الكادر القاعدي لهيئة التادريس (المعيدين والمدرسين المساعدين) لا يتجاوز 2%. وهي فضيحة بكل المعاني. لأنه من المتعارف عليه في مصر بل في معظم دول العالم، أن الأقليات تستثمر بشكل مكثف في تعليم أبنائها. وكما تتحدث الأمثال المصرية عن “دلع الفقراء” باعتباره أسوأ أنواع الدلع، لأن الفقير لا يمتلك ترف الدلع، فدلع الأقليات لا يقل سوءاً. هكذا طالب الاستاذ جندي ساخراً في نهاية دراسته بحملة قومية ودولية لانقاذ الاقباط من الغباء المزمن الذي أصابهم وجعل نسب تواجدهم في المراكز العلمية بهذا المستوى المريع في التدني! الحقيقة أن لإحصاءات المتوفرة تشير بشكل قاطع إلى وجود سياسة عامة في معظم مؤسسات الدولة تؤدي إلى استبعاد الأقباط أو الحد من نسبتهم. وحقيقة أن هذه السياسة مُطبقة في معظم مؤسسات الدولة يعني أنها ليست نوعاً من الانحراف الفردي من موظفين عموميين. هناك سياسة منهجية تستبعد الكثير من ذوي الكفاءات من الفوز بمناصب أو ترقيات لا لشيء إلا لأن خانة الديانة في بطاقاتهم الشخصية تشير إلى المسيحية. كل سياسة لها تاريخ وأصل. فمتى بدأت هذه السياسة؟

منذ سنوات لفت نظري معلومة ساقها كاتبنا الراحل العظيم نجيب محفوظ بشكل عرضي في أحد حواراته مع الاستاذ محمد سلماوي في التسعينيات والذي أعاد نشرها منذ أسابيع. قال محفوظ أنه كان مرشحاً من قبل جامعة القاهرة لبعثة دراسات عليا في الخارج، ولكنه استُبعد لأنهم ظنوا من اسمه أنه مسيحي. فوالدته سمته على اسم الطبيب المسيحي الشهير الذي ولدَها. القصة التي رواها كاتبنا العظيم تشهد على شيئين. أولاً أن والديه المسلمين لم يتحرجا من تسميه طفلهما على اسم الطبيب المسيحي. وذلك يشهد على المناخ الطيب والنقي الذي ساد في أعقاب ثورة الاستقلال المجيدة في 1919. وتشهد نفس القصة ثانياً على أنه في عز هذا المناخ الطبيب والنقي كانت هناك ملامح سياسة عرفية غير مسجلة في أية وثائق أو قوانين تضع سقفاً لنسبة المسيحيين في الوظائف العامة. لقد اعتبرت أن كشف محفوظ عن هذه الحقيقة في هذا الوقت بالذات هو لفتة كريمة منه للأقباط يشهد فيها بوجود سياسة طائفية في التعامل مع المتقدمين منهم للوظائف العامة. وعبقرية إسهام الاستاذ محفوظ تتمثل في أن ملحوظته العرضية تسجل حقيقة يجب أن نقف أمامها طويلاً، وهي أن السياسة المذكورة أصولها ترجع إلى العهد الذهبي للوحدة الوطنية، الذي لم تشهد مصر مثله طوال تاريخها المديد.

أهم شيء في قصة نجيب محفوظ هو ما قيل في تفسير استبعاده من البعثة.. قيل له أن هناك اثنين من المسيحيين من بين عشرة وهذا يكفي!! أي أنه كان هناك سقف لنسبة المسيحيين لا يجب أن يتجاوز 20%. ماذا لو قلبنا المعادلة وقلنا أن هناك حد أدنى للمسلمين في البعثات لا يجب أن يقل عن 80%؟ هنا سنستنتج أنه كانت هناك سياسة “تمييز إيجابي” لصالح المسلمين، تلك السياسة التي تقوم على تحديد نسبة حد أدنى لطائفة دينية أو لجماعة عرقية في الوظائف والمناصب. صحيح أن سياسة التمييز الإيجابي هنا لم تكن لصالح أقلية. لكن ما يجعلنا نطلق عليها تمييزاً ايجابياً هو أنها تنطلق من نفس المبدأ.. ضرورة أن تعكس التركيبة الطائفية في الدولة التركيبة الطائفية في المجتمع. نسبة المسلمين في مصر في القرن العشرين والواحد وعشرين تزيد عن 80% في بعض التقديرات وعن 90% في تقديرات أخرى. لذلك من غير المقبول – في نظر البعض – أن تقل حصة المسلمين في الوظائف العامة عن 80% أو 90%. كما أنه من غير المقبول ألا يكونوا على رأس المؤسسات العامة، لأن الأغلبية العددية في المجتمع وفي هذه المؤسسات هم المسلمين. هذا هو المنطق، وهو منطق طائفي بامتياز. لقد كانت نسب المسيحيين معقولة في مؤسسات الدولة عندما كان المنطق الطائفي مطبقاً في سياق حالة من السلام الطائفي. وعندما استحالت تلك الحالة إلى توتر ثم إلى احتقان فيما بعد تحولت سياسة التمييز الإيجابي لصالح المسلمين إلى سياسة اقصاء وتمييز سلبي ضد المسيحيين وصل بنسبتهم في بعض المؤسسات وبعض المواقع إلى أقل من نسبتهم العددية في السكان، وإلى الصفر في المراكز الحساسة. والسؤال الذي أوجهه للعزيز مجدي خليل هو.. إذا كان أصل المشكلة يكمن في سياسية التمييز الإيجابي التي مورست لصالح المسلمين، فكيف يكون الحل بأن تمتد سياسة التمييز الإيجابي لكي تشمل المسيحيين أيضاً؟ مش كفاية بقى تمييز؟ ألم يحن الوقت للهجوم الشامل بمبدأ الكفاءة والاستحقاق والعدالة؟ أليس ذلك هو الدواء الشافي لمشاكل المحروسة؟ الأقباط لا يحتاجون للتمييز الإيجابي. يكفي تطبيق مبدأ الكفاءة والاستحقاق لكي يحصل كل المصريين على حقوقهم، وسيكون الأقباط في مقدمة هؤلاء المصريين.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *