سامر سليمان

هل تذكروا فيلم الارهاب والكباب لعادل امام؟ هناك دور صغير جداً ولكن بالغ التأثير قام به ممثل نوبي لا أعرف اسمه. لم ينطق هذا الممثل إلا بعبارة واحدة طوال الفيلم وهي “في أوروبا والدول المتقدمة يفعلون كيت وكيت وكيت”. تكلمه عن الأكل يقول لك “في أوروبا والدول المتقدمة” تكلمه عن الكرة يقول لك “في أوروبا والدول المتقدمة”. وهو يردد العبارة بنفس التون، بنفس تعبيرات الوجه، يعني باختصار هو منوم مغناطيسياً أو مبرمج كالآلة على نغمة “في أوروبا والدول المتقدمة” بشكل يثير السخرية. لماذا وضع صناع الفيلم هذه العبارة على لسان ممثل أسود؟ ربما لأن لونه الأسود يجسد المفارقة بشكل بصري. أكثر من يتغنى بأوروبا المتقدمة وهو أكثر المصريين بعداً عنها. هذا اذا افترضنا حسن النية. أما إذا افترضنا سوء النية سيكون الغرض هو القيام بسخرية مزدوجة.. من الفكرة ذاتها ومن حاملها وهو أحد الأقليات التي نالت نصيب وافر من السخرية في السينما المصرية دون أن تتحرك الرقابة لكي تحميها. فالرقابة تحمينا فقط من مشاهد الحب، لأن الحب عورة يجب التستر عليه. أما عنصرية اللون فهي مفخرة.

لم يكتف عادل إمام بالسخرية من “التقدم” في فيلم “الارهاب والكباب”، لكنه واصل مهمته المقدسة في فيلم “السفارة في العمارة”، حين سلط الضوء على أسرة من “اليسار التقدمي” لكي تكون مادة للسخرية الناعمة. فاليسار التقدمي كما قدمه الفيلم يعني أن تنطق برطانة غير مفهومة وأن تعيش في كهف خارج التاريخ، بل وأن تكون رائحتك نتنة (مثلما هو حال معظم الأقليات في مختلف بقاع العالم). القيمة شبه الايجابية الوحيدة لدى هذه الاسرة هو عدائها للتطبيع مع إسرائيل وإن كان هذا العداء يأخذ أشكال تنم عن عصاب نفسي مثير للضحك. الشيء الوحيد الذي لا يثر الضحك في أسرة اليسار التقدمي هو ابنتهم “المُزة” داليا البحيري والتي من أجل خاطر عيونها السود وضع عادل امام صور لينين عنده في البيت.

هكذا لم يخرج عادل امام في الجوهر عن الحملة التي شنتها القوى المحافظة على فكرة التقدم. والعظة التي نستخلصها منها هنا هي أنه ليس كل من هاجم الأصوليين – كما فعل عادل امام – تقدمي أو في جبهة التقدم. لأن هناك طريقة علمانية أو شبه علمانية لرفض التقدم، كما هو الحال لدى الدكتور عبد الوهاب المسيري والدكتور جلال أمين الذي خصص كتاب بالكامل لنقد الفكرة سماه “خرافة التقدم والتأخر” صادر عن دار الشروق. لماذا يصبح التقدم خرافة؟ لأنه – وفقاً لأمين – يقوم على تصنيف للمجتمعات، بعضها متقدمة والأخرى متخلفة، بينما في الحقيقة التقدم والتخلف نسبي ويتوقف على كيفية تعريفه. بالإضافة إلى ذلك يرى أمين أن فكرة التقدم تم غرسها في ذهن المصريين بواسطة الأجانب والمصريين المتغربين. والدليل الذي يسوقه الكاتب على ذلك هو أن فكرة التقدم لا تجدها عند بسطاء الناس (ص9) لأن هؤلاء لم يتعرضوا لما تعرضت له النخبة من مؤثرات أجنبية أو قل غسيل مخ.

ولكن الحقيقة في رأيي غير ذلك تماماً. مصطلح الدول المتقدمة شائع على لسان الناس البسطاء. وإذا كان قد تراجع في مصر فذلك بفعل نشاط دؤوب لنخب قالت للناس أن التقدم عيب لأنه يأتي بأفات كثيرة مثل الانحلال الجنسي وتفكك الأسرة، والعلمانية الخ. وإذا كان مصطلح “التقدم” قد تراجع في اللغة اليومية لعموم المصريين ولنخبتهم فذلك لا يعني على الإطلاق أنهم تخلوا عن الفكرة. فالأهم مما يقوله الناس هو ما يفعلونه. والناس يصوتوا بأقدامهم وليس فقط بحناجرهم. فملايين المصريين الذين أخذتهم أقدامهم للهجرة إلى بلاد أخرى والذين لا يزالوا واقفين أمام سفارات دول أجنبية هم قد صوتوا بالفعل على أن هناك دول متقدمة عنا بالفعل. المثير للدهشة أن ميل المقارنة عند الناس لم يعد يقتصر على تلك التي بين مصر والبلاد الصناعية وما بعد الصناعية، وإنما أيضاً مع بلاد ريعية مثل الخليج العربي، الذي بات الكثير من المصريين يتغنون بنظافتها ونظامها.

التقدم ليس فكرة “غربية” مستوردة كما يشير الدكتور أمين. إنه فكرة عالمية عابرة للثقافات. صحيح أن محاولات تأصيلها علمياً بدأت في جامعات البلاد الصناعية وما بعد الصناعية، لكن الفكرة البسيطة موجودة مع الانسان منذ فجر التاريخ. لماذا كانت الهجرة والانتقال إلا إذا كانت الناس تعتقد أن هناك بلاد أفضل من بلاد أخرى؟ فكرة التقدم لا تخالف فطرة الانسان الفرد كما يشير الدكتور أمين. صحيح أن الفرد لا يرى في نفسه مسيرة دائمة نحو التقدم ولكن باعتباره صعود من الطفولة إلى المراهقة إلى النضج ثم هبوط من النضج إلى العجز ثم الممات. إلا أن الانسان حيوان اجتماعي وهو قادر على الاحساس بأنه جزء من مسيرة صاعدة تقدمية حتى لو كان هو شخصياً في حالة غروب، سواء بواسطة استمراريته من خلال أبناءه الذي يصر على أن يكونوا أفضل منه أو من خلال تقدم الجماعة أو المجتمع الذي ينتمي إليه. التقدم ليس خرافة، لكنه حقيقة راسخة في ذهن الناس. ودور العلوم الاجتماعية هو التفاعل النقدي والتأصيلي مع الفكرة وليس نفيها. فلُيعرف كل منا التقدم كما يشاء، وليغير المصلطح كما يشاء، فليسميه إصلاح أو تنمية أو تحسن، ولينزع عنه أي تحيز ثقافي أو عنصري لصالح مجتمعات أخرى، لكن رفض فكرة التقدم هو رفض لشيء أصيل في الانسان، إنه رفض للطاقة المحركة لحياة الانسان الواعي.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *