لماذا هزيمة تيار “استقلال القضاء” وانتهاء حركة “التغيير”؟

بهزيمة التيار المعارض في انتخابات نادي القضاة نكون قد طوينا صفحة من تاريخ مصر السياسي بدأت في عام 2004 و 2005. صفحة كان لها بطلين أساسيين هما حركة “كفاية” وحركة “استقلال القضاء”. حركة “كفاية” غربت ولم تلبث حركة استقلال القضاة أن لحقت بها، تاركين فراغاً موحشاً يسوده التشاؤم من أي امكانية لتغيير حقيقي بواسطة الحركة المنظمة لمجموعات من الشعب المصري، وهو التشاؤم الذي أوصل البعض إلى الدعوة العلنية وعلى صفحات الجرائد لانقلاب عسكري على الحكم العسكري-البوليسي المطعم بجماعات من رجال الأعمال.

ماذا حدث؟ ولماذا الهزيمة؟ لم تكن الهزيمة مفاجأة. ففي عز الدوي الاعلامي لحركة كفاية والذي وصل إلى دخول كلمة kefaya إلى قاموس الإعلام العالمي وفي عز حركة القضاة التي وصلت إلى حد نزولهم الشارع مسلحين بالأوشحة، كانت هناك أصوات ناقدة لهؤلاء وأولئك في جبهة المعارضة، كان لي حظ أن استمع إلي بعضها بشكل شفوي من جانب العديد من الاصدقاء والزملاء، كما كان لي حظ أن أشارك مع العديد من الزملاء والاصدقاء في النقد المكتوب لحركة التغيير والذي يمكن الرجوع لبعضه في أعداد مجلة البوصلة التي صدرت عامي 2005 و2006. وهذا النقد كان من موقع المشاركة في حركة التغيير وليس من خارجها.

الدرس الأهم لهزيمة حركة التغيير هو نهاية استراتيجية “الغموض البناء” في التغيير السياسي. لقد شاع مصطلح “الغموض البناء” بعد أن طرحته كوندوليسا رايس كعنوان لتغيير “الشرق الأوسط”. لكن مضمون المصطلح لم يكن جديداً على المعارضة المصرية، خاصة كفاية الذي قام نجاحها الاعلامي على غموض أهدافها. الغموض في الأصل شيء سلبي لأن الانسان يخشى ويكره ما يجهل. فكيف يصبح بناءً؟ “الغموض البناء” يعني أن عدم وضوح الرؤية ميزة وليس عيب، لأن الاصرار على تحديد الهدف من البداية يعني الاختلاف والانقسام. السياسة الناجحة هي عملية تجميع لناس متناثرين. الغموض البناء يعني زلزلة الوضع القائم والقبول بفكرة التغيير السياسي بدون الاتفاق المسبق على وجهة التغيير. هذه هي الفكرة التي سقطت نهائياً بعد هزيمة حركة التغيير.

لا زال البعض يصر على استدعاء التفسيرات الاستشراقية العنصرية لتفسير نجاح نظام الحكم في التجدد والاستمرار. لا زال البعض يصر على أن الشعب المصري طابعه الاساسي هو الخنوع والخوف. يعني باختصار العيب ليس في معارضة النظام وانما في الشعب المصري نفسه. يعني النظرية صح ولكن الواقع هو المخطيء. ولكن في الحقيقة نظرية “الغموض البناء” يمكن أن تنجح مع كائنات لا تحسب خطواتها. اذا كان هناك مجال للحديث عن طبيعة للشعب المصري فإن أحد هذه الطبائع ستكون الطابع العملي الواقعي. وهو طابع يمكن بناء مشروعات سياسية عظيمة عليه. مشكلة السياسية المصرية ليست انها قائمة على حسابات أو أنها لا تقبل بالمغامرة. مشكلتها أن الحسابات التي تقوم عليها قصيرة الأجل (تصويت من أجل شنطة رمضان مثلاً) كما أنها حسابات فردية أو حسابات مجموعات مصالح ضيقة. دعونا نحتفي بضعف النزوع للمغامرة في مصر. فالسير وراء الغموض البناء هو الذي أدى بمجتمعات عظيمة مثل المجتمع الألماني إلى تسليم السلطة لحركات سياسية مدمرة ومنحطة مثل الفاشية لا تملك برنامج حقيقي لإقامة المجتمع.

لم تجب حركة التغيير في مصر على أهم أسئلة السياسية المصرية، ولذلك كان مصيرها الضياع. وسأكتفي اليوم بسؤالين: السؤال الأول هو إذا كان الهم الأساسي للناس في مصر هو الاقتصاد أي لقمة العيش، ماذا يمكن أن يقدم التغيير السياسي لقضية التنمية الاقتصادية؟ وماذا يعطي للمظلومين والمهمشين اقتصادياً؟ الرد بأن إزاحة السلطة المستبدة سينهي الفساد وبالتالي سيحسن من أحوال الناس هو رد قاصر سواء لأن شبكات الفساد ضاربة في عمق المجتمع كما أنها ماسكة برأس السلطة. ولأنه حتى لو افترضنا أن هناك امكانية للقضاء التام على الفساد فلن يحل ذلك أزمة الفقر والحرمان، لأن مشكلة مصر لا تكمن فقط في الفساد وانما في احتكار أقلية لمعظم ثروات المجتمع وفي سوء أداء المؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة، وفي انهيار قيم العمل الجماعي. ولأن الشعب المصري ليس شعباً أهبل وهو متمسك بالحياة الواقعية الملموسة فإنه لم يصدق أبداً أن مجموعة السياسيين في كفاية ومجموعات من القضاة الذين هم في النهاية جزء من باشوات هذا البلد لديهم اجابات على هذه الأسئلة.

السؤال الثاني الذي لم تجب عليه حركة التغيير هو التالي.. إذا كان الصراع الاقتصادي في مصر يتقاطع مع مشكلة علاقة الدين بالدولة وأوضاع الأقليات الدينية والثقافية فما هي التسوية التي تطرحها حركة التغيير بين الأطراف المتصارعة؟ ما هي الصيغة التي ستحقق الحل الوسط بين تيار مواصلة تديين السياسة وتيار الاكتفاء بما تم ناهيك عن تيار تحرير الدين من صراعات السياسة ووضع الصراع السياسي على أرضية المصالح؟ وما هي حقيقة التمييز في مصر؟ هل هناك تمييز ضد النساء والأقليات في مصر، أم أن الأقباط هم أسعد أقلية في العالم كما يقول الدكتور محمد عمارة وأن التمييز القائم هو ضد الرجال والمسلمين؟

هذا النوع من الأسئلة ستتعدد الإجابات عليه وستتناقض. وهنا سيجد كل منا نفسه أحياناً أقرب إلى حسني مبارك ومجموعته من “أخوته” في المعارضة. لأنه في حقيقة الأمر ليس هناك معارضة واحدة بل معارضات. معارضة تشد مصر إلى اليمين و أخرى تشد مصر إلى اليسار، وثالثة تشد مصر إلى حيث لا رجعة، بينما يرفع نظام الحكم شعار “خير الأمور الوسط”. ولهذا هو باقي حتى اشعار أخر.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *