وقفة نقدية مع زميل الثورة

مرور عام على قيام الثورة يمثل فرصة للمراجعة وللنقد الذاتى من جانب كل من شارك فى الثورة. ومن هذا المنطلق فإن النقد الذى أوجهه إلى مواقف وأفكار بعض الزملاء الثوريين هو نقد رفاقى غير استعلائى هادف إلى تطوير أداء التيارات الإصلاحية والثورية وتجاوز الانقسامات غير الضرورية من أجل الوصول إلى الهدف المشترك وهو إقامة دولة تتأسس على الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. أربعة انتقادات أتوجه بها إلى بعض الزملاء.

أولا: العداء المطلق للأحزاب وللتنظيم خطأ فادح
السياسة فى أحد تعريفاتها هى إدارة وتنظيم المصالح المشتركة والجماعية. أنت مسئول عن إدارة شئون بيتك. لكن إدارة شئون العمارة ليست مسئوليتك وحدك، وإنما مسئولية اتحاد الملاك أو المستأجرين أو ما شابه ذلك. هذه هى السياسة. فالسياسة ليست إلا نشاطا جماعيا يهدف إلى تنظيم شئون الدولة والمجتمع. ومن هنا فإن من يعادى التنظيم هو من حيث لا يدرى يعادى السياسة. إذا كنت رافضًا تنظيم نفسك فى حزب أو جماعة، كيف لك أن تمارس نشاطًا يهدف أساسًا إلى تنظيم المجتمع والدولة. أما إذا كنت تقبل الانتظام فى مجموعات صغيرة ولكن ترفض الأحزاب على إطلاقها فأنت هنا تعادى السياسة التى تهدف إلى إدارة جهاز الدولة وبالتالى أنت تصر على تهميش نفسك بحجة الحفاظ على «النقاء الثورى» بعيدا عن مناورات الأحزاب. نعم، السياسة لا تقوم فقط على تنظيمات حزبية وإنما تتأسس أيضا على تنظيمات غير حزبية مثل جماعات الضغط. لكن جماعات الضغط تلك ليست بديلا عن الأحزاب. بل إن جماعات الضغط لا تعمل بكفاءة إلا بالتوازى وبالتعاون مع الأحزاب. لأن أحد أهم الجهات التى تضغط عليها جماعات الضغط هى الأحزاب. فجماعات البيئة مثلا تمرر مطالبها بالحد من التلوث من خلال الاتصال بالأحزاب والتعاون معها ودعمها بقدر ما تتبنى هذه الأحزاب برامج حماية البيئة. من قرر أن يعمل بالسياسة لابد أن يكون عضوا فى تنظيم أيا كان نوعه.. حزبا يهدف إلى الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها، جماعة ضغط لا تصل إلى السلطة ولكن تمارس التأثير عليها، نقابة تدافع عن حقوق العاملين بمهنة معينة، الخ. المهم أن يدرك أعضاء كل نوع من هذه التنظيمات أنه لا غنى عن الأنواع الأخرى، وأن التغيير الحقيقى لا يأتى إلا بالتكامل والتحالف بين أنواع مختلفة من التنظيمات.

ثانيًا: الثورة لا تعنى إسقاط النظام فورا والثورة لا تعادى الإصلاح
الإنسان عادة لا يتمرد على المجموعة الحاكمة لعزلها إلا بعد أن يستنفد كل وسائل الإصلاح المتدرج ويشارك فى ثورات صغيرة جزئية. المثل يقول إن الثورة ما هى إلا إصلاح فاشل. ليس هناك طريق مختصر للثورة الشاملة. لكى يثور الناس على المجموعة الماسكة بقمة السلطة لابد أن يسيروا فى طريق طويل من محاولة إصلاح الأوضاع ومن التمرد على السلطات الصغيرة. الثورى الحق هو من يسير مع الناس حينما يكون الإصلاح ممكنا. بل من واجبه أن يكون وسطهم حتى ولو اقتنع أن فرصة الإصلاح ضعيفة جدا. فقط عندما تكون وسط الناس أثناء الإصلاح وأثناء الثورات الصغيرة يمكنك أن تبشر بالثورة الشاملة وأن تقنع الناس أن الإصلاح التدريجى ليس هو الخيار الأوحد. والثورى يجب أن يحافظ على مصداقيته وهو يمارس الثورة، وعليه ألا يطلق نفير إسقاط رأس النظام بدون قراءة موازين القوى الحقيقية على الأرض. وعلى هذا فإن من يدعو إلى القيام بثورة جديدة يوم 25 يناير القادم من أجل إسقاط المجلس العسكرى هو لا يريد أن يرى أن هناك مجلس شعب بازغ له قدر كبير من شرعية تمثيل الشعب، وأن الكثير من الناس يراهنون على هذا المجلس وعلى الحكومة الجديدة التى ستشكلها الأحزاب الفائزة. إذا حدث ولم يسلم المجلس العسكرى السلطة للبرلمان ولا للحكومة الجديدة ولا للرئيس القادم، أو إذا اكتشف الناس أن المؤسسات المنتخبة قد تسلمت السلطة بالفعل وكانت أقل بكثير من طموحاتهم، هنا يمكن إطلاق نفير إسقاط رأس النظام. أما قبل ذلك فالنضال والاعتصام والتظاهر لابد أن يرمى لتحقيق انتصارات جزئية وانتزاع مطالب محددة وليس إسقاط رأس السلطة. الثورى الحق هو من يسبق الناس بخطوة واحدة وليس عدة خطوات. لأنك لو سبقتهم بخطوات كثيرة ستلتفت فى النهاية لتجد نفسك وحدك أمام السلطة. ولن يفيد المجتمع كثيرا أنك بطل يواجه السلطة وحيدا بصدره العارى. وفى كل الأحوال قبل أن تسقط سلطة عليك أن تفكر جيدا من هى السلطة البديلة. السلطة السياسية ما هى إلا تنظيم لأفراد ومجموعات. المجلس العسكرى لم يتسلم السلطة بعد سقوط مبارك وجهاز الشرطة والحزب الوطنى إلا لأنه على قمة تنظيم كبير متماسك ومنتشر فى كل ربوع مصر وهو الجيش. فإذا أسقطنا المجلس العسكرى، ما هو التنظيم القوى، المتماسك والمنتشر فى كل ربوع مصر الذى سيتسلم السلطة؟ أرجوكم لا تقولوا ضباط شرفاء من خارج المجلس العسكرى. كفانا انقلابات عسكرية وحكم عسكر.

ثالثًا: الكبار والشيوخ هم العدو الخطأ
أسوأ شىء يمكن لحركة ثورية أن تفعله هو أن تخسر حلفاء محتملين وأن تضع فى خانة الأعداء من هم فى الحقيقة أنصار لها. أحد أعراض الديكتاتورية فى مصر كانت شيخوخة المجموعة الحاكمة مثل حسنى مبارك، وفتحى سرور، وصفوت الشريف وعمر سليمان، وحسين طنطاوى، الخ. لكن شيخوخة النخبة لم تكن إلا أحد أعراض المرض وليست المرض ذاته. بالضبط مثل الحمى التى تلحق بالجسم جراء إصابته بالإنفلونزا. شيخوخة الحكام ليست هى أصل المرض وإنما أحد أعراضه. والدليل على ذلك هو أن الديكتاتورية العسكرية فى مصر بدأت شابة. فناصر وزملاؤه وصولوا إلى السلطة فى بداية الثلاثينيات من عمرهم. وكان يُعاب على الضباط الأحرار آنذاك أنهم «شوية عيال». بمرور الوقت وببقاء نفس المجموعة الحاكمة بتعديلات طفيفة زاد متوسط عمر المجموعة الحاكمة، وهو الأمر الذى حاول النظام فى أيامه الأخيرة تداركه من خلال حشد مجموعات من الشباب خلف جمال مبارك «قائد جيل المستقبل». ولو كان جمال قد نجح فى الحلول محل أبيه ولو كان استبدل بعض القيادات الكبرى الهرمة بأخرى شابة فلم يكن ذلك ليغير شيئا من حقيقة الاستبداد فى مصر. فالمجموعة المستبدة الفاسدة التى تسيطر على مصر هى مجموعة متعددة الأجيال فيها الشيوخ والكهول والشباب وربما الأطفال أيضا لأن أطفالهم يتربون منذ الصغر على احتقار الشعب والتعالى على خلق الله. بالمثل، التيار الذى يريد إزاحة هذه المجموعة والوصول إلى السلطة لابد له أن يكون متعدد الأجيال. انظر حولك.. إذا وجدت أعضاء تنظيمك أو مجموعتك من جيل واحد، اعرف أنك تسير فى الطريق الخطأ لأن جماعتك فى هذه الحالة لن تكون ممثلة لتنوع شعبك، واعلم أنك مهزوم بلا أدنى شك لأن الجماعة ذات الجيل الواحد فقيرة ولا يتاح لها الاستفادة من تنوع المهارات والموارد التى يفوز بها تنظيم متعدد الأجيال.

رابعًا: البناء لا يمكن تأجيله لحين استكمال الهدم والاقتصاد لا يمكن تأجيله لحين استكمال الثورة
الثورة المصرية طويلة وممتدة، وفيها موجات كثيرة من الكر والفر، من المد والجزر، من إسقاط رأس النظام ومن الضغط على الرءوس الجديدة. من الطبيعى إذن أن تتجاور فيها مهام بناء المؤسسات مع مهام التظاهر والاعتصام. لهذا عجبت كل العجب حين سألت أحدهم: لماذا لا تنضم إلى حزب سياسى؟ فقال لى لأننا لم ننته بعد من هدم النظام القديم! أو ليست الأحزاب (بعضها بالطبع) هى أحد معاول هدم النظام القديم؟ السلطة ليست بناية يجب استكمال هدمها بالكامل قبل تشييد سلطة جديدة على أنقاضها. السلطة البديلة تنشأ فى المجتمع وتتوغل فيه وتمارس التأثير والسيطرة فى مساحات لا تشغلها السلطة القائمة. وحينما يتحقق لها ذلك فإن إزاحتها للنظام الموجود تصبح مسألة وقت، ويصبح سقوط جهاز الدولة فى يدها شبه حتمى.

من أهم مجالات نشوء السلطة الجديدة هو المجال الاقتصادى الذى يتعامل معه بعض الثوريين بخفة شديدة بل بانتهازية من قبيل التلويح بشعار الحد الأدنى للأجور فى ميدان التحرير على أمل جذب العمال والموظفين إلى الاعتصام ومن ثم إسقاط المجلس العسكرى. ليس هكذا تتحرك الطبقات والجماعات الاجتماعية. وليس بالاعتصام وحده تسقط النظم، وإنما بالإضراب العام. وهذا الإضراب العام لا مجال للوصول إليه بدون قدر أعلى من تنظيم الطبقات العاملة والمتوسطة. لقد أسقطت ثورة يناير المجيدة سيطرة النظام وأجهزته الأمنية على النقابات الذى دام نحو 60 سنة. وثمار ذلك الانتصار التاريخى لن نجنيه إلا بعد عدة سنوات، لأن النقابات القديمة لم يتم إصلاحها بعد والنقابات الجديدة تحتاج لعدة سنوات لكى يشتد عودها.

مصر لن تعبر إلى الديمقراطية السياسية والاجتماعية إلا من خلال نضال ممتد لسنوات طويلة، يمتزج فيه الهدم بالبناء والإصلاح بالثورة والعمل المؤسسى الهادئ بالنشاط الثورى الفائر. ومن الطبيعى أن يميل بعضنا للهدم أكثر من البناء أو للإصلاح أكثر من الثورة أو للنشاط الفائر أكثر من العمل المؤسسى الهادئ. المهم ألا نقع فى خطأ التعالى على بعضنا البعض وألا نسقط فى خطيئة القطيعة مع حلفائنا ورفاقنا لمجرد أنهم يعملون فى أطر مختلفة أو يسلكون سبلا أخرى للوصول لنفس الهدف. فالهدف واحد وهو إقامة دولة تتأسس على الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *