“هنا فيه دولة غير الدولة”. عبارة قالها أحد سكان بولاق الدكرور للدكتورة سلوى اسماعيل – أستاذة العلوم السياسية بمعهد الدرسات الشرقية والأفريقية التابع لجامعة بلندن – حين كانت تزور المنطقة بانتظام لإجراء بحثها هناك والذي قام على 115 لقاء مع سكان المنطقة. تقول الباحثة أن هذه العبارة ألهمت كتابها الأخير الذي يحمل عنوان “الحياة السياسية في الأحياء الجديدة للقاهرة” والذي يحمل عنواناً فرعياً “اللقاء مع الدولة اليومية”. الكتاب صادر عن دار مينيسوتا بالولايات المتحدة. من هي تلك الدولة المختلفة التي تحكم هذه المناطق الشعبية الفقيرة؟ هذا هو السؤال. الكتاب يشرح أنماط الحكم والسيطرة في تلك الأحياء والتي تقوم على سياسة غير رسمية تتمثل في مجالس عرفية وشخصيات ذات نفوذ ومجموعات دينية ومجموعات أخرى تمارس البلطجة، هذا بالطبع بالإضافة إلى مؤسسات الدولة الرسمية خاصة جهاز الشرطة. الكتاب إذن يستوحي مفهوم السلطة عند الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي يرى أن السلطة وعلاقات السلطة تمارس من جانب أطراف في المجتمع ليس لها أية صفة رسمية، كما تمارس من قبل الدولة.
والكتاب يؤكد في البداية وفي النهاية أن السياسة لها علاقة بالمكان الذي تتموضع فيه. فلكي نفهم السياسة المحلية في أحياء القاهرة الشعبية الجديدة يجب أن ندرسها في علاقتها بالمكان، بما فيه من جغرافيا وتاريخ وبما يحتويه من موارد اقتصادية وعلاقات اجتماعية. هذه الدراسة تمثل إضافة إلى الكتابات السياسية على مصر من حيث أنها تضع المكان في قلب التحليل السياسي. br />
القيمة الكبيرة للكتاب تتمثل في أنه عندما يدرس الدولة فهو ينظر إليها من تحت، من على الأرض.. في الشارع وفي الحي، الدولة في علاقتها اليومية بالمواطن. هذه هي الدولة التي تعني الانسان. فالرئيس ورئيس مجلس الوزراء هم هناك، أما أجهزة الحكم المحلي وأجهزة الدولة الخدمية ورجال الشرطة والمخبرين هم هنا، المرء يحتك بهم يومياً. هذا الكتاب يشرح العلاقة الصعبة بين المصري ودولته اليومية في السنوات الأخيرة. التغير الأهم الذي تعتبره الباحثة النقطة المفصلية في تغير علاقة الدولة بالمواطن هو ما تسميه السياسات النيوليبرالية والتي تتلخص في انسحاب الدولة من تقديم العديد من الخدمات الاجتماعية. هكذا ترصد اسماعيل نمو عنف الدولة تجاه المجتمع. فبينما تقل قدرة الدولة على السيطرة والتحكم من خلال تقديم الخدمات للناس، تميل أكثر فأكثر لاستخدام العصا الغليظة لإحكام السيطرة. والعنف في هذا الكتاب مدروس في علاقته بقضية الذكورة والأنوثة. فرجال الشرطة الذين يمارسون العنف على الناس هم يمارسونه كرجال ضد رجال أخرين. وهؤلاء الأخرين الذين تهدر كرامتهم يتلقون الطعنات باعتبارها جرحاً لذكورتهم، وهو الأمر الذي يؤثر على علاقتهم بنسائهم. وفقاً للكاتبة، الرجال يعيدوا بناء ذكورتهم الجريحة في مواجة النساء. فترصد الباحثة “الغارات” التي يشنها بعض الشباب على الفتايات لممارسة السلطة عليهن وضبط سلوكهن. كما يرصد رؤية البنات والسيدات للرجال. هذا الكتاب إذن يحتوي على رؤية سياسية حساسة لمسألة علاقات الذكورة والأنوثة وهو البعد الذي يغيب عن معظم دراسات العلوم السياسية في مصر بالرغم من أن مفردات السياسة وتشبيهاتها الجنسية المتداولة في مصر تعد أرضاً خصبة لمن يريد دراسة علاقة السياسة بالنفس التي يشكل الجنس بالطبع أحد أبعادها الرئيسية. وعلاوة على ذلك الكتاب يسجل أصوات بعض النساء وهن يعلن أن المرأة المصرية في الأحياء الشعبية تتولي مسئولية مواجهة أجهزة الدولة أكثر من الرجال. فالكثير منهن يعفين رجالهن من التعرض لرزالات موظفي الدولة ويتحملن تلك المسئولية على اعتبار أن “الحريم جامدين”.
يحتوي الكتاب إذن على دراسة لعلاقات القوة والسلطة على المستوى المحلي. وتستخلص الباحثة أن أحد تعريفات القوة في تلك الأحياء بالنسبة للأهالي هناك، هو القدرة على مخالفة القواعد الأخلاقية بدون التعرض للعقاب، هي إذن قوة في مواجهة دولة القانون. فالقانون الرسمي هناك له مكانة هامشية إلى جوار القانون العرفي. هكذا حين نقترب من نهاية الكتاب ندرك أكثر فأكثر ما كان السكان يقصدونه من الدولة غير الدولة التي تمارس عليهم السلطة. ولكن الناس في تلك الأحياء لا يظهرون في الكتاب باعتبارهم مجرد ضحايا، بل هم في حالة تعايش ومقاومة للسلطات التي يعيشون في ظلها. هكذا خصصت الكاتبة ملحقاً في نهاية الكتاب لتتبع الانتفاضات الشعبية المحلية التي قامت ضد تجاوزات الدولة، خاصة جهاز الشرطة، وحاولت تقديم تفسيرات لتركز تلك الانتفاضات في الأقاليم دوناً عن العاصمة.
عرض هذا الكتاب يمثل فرصة لإعادة طرح الموضوع الذي ناقشه كاتب هذه السطور مع العديد من الأصدقاء من الباحثين والأكاديميين وهو توفر العديد من الدراسات الجادة والهامة عن مصر والتي ألفها مصريون وأجانب بلغات أجنبية التي لم تلفت انتباه المترجمين والناشرين إلا نادراً لأسباب لا أعلمها. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن كتاب سلوى إسماعيل السابق – إعادة النظر في السياسات الإسلامية – حظي باهتمام كبير في الأوساط الأكاديمية بالخارج، فإن القارئ المصري والعربي، حتى معظم المتخصصين منهم – لم يقرأه حتى الآن لعدم توفر نسخة مترجمة منه. وهذه خسارة فادحة للمعرفة والعلم في مصر والعالم العربي. علنا على الأقل نترجم الدراسات المكتوبة عنا. هذا أضعف الإيمان.