المعضلة الحقيقية أمام الديمقراطية المصرية

الشعب المصري ليس من عجينة مختلفة عن كافة شعوب الأرض. هو شعب يمكن سبر غوره بأدوات العلوم الاجتماعية، أي علوم الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتاريخ واللغة والنقد الفني، والفلسفة، وعلوم الدين، وعلم النفس. المشكلة أن مؤسسات تعليم وإنتاج العلوم الاجتماعية في مصر ضعيفة، وأن المتخصصين في العلوم الاجتماعية لم ينجحوا بعد في إقناع شعبنا أن تلك العلوم لا تقل في فائدتها للمجتمع عن العلوم الطبيعية. حين يحظى علماء اجتماعنا وسياستنا واقتصادنا ونفسنا بمكانة تقارب تلك التي حققها الدكتور أحمد زويل حينئذ سنكون قد دلفنا من بوابة التقدم. فكما أن المجتمعات الحديثة لا يمكنها العيش بدون علم البيولوجي الذي يدرس الكائنات الحية وتطورها، والذي يقتات الأطباء على فائض خيراته، فإن نفس المجتمعات لا يمكن أن تحيا بصحة وسعادة بدون علوم اجتماعية قادرة على تشخيص أمراض المجتمع وكتابه تذكرة علاجه.

ولأن العلوم الاجتماعية في مصر ضعيفة فإن فهمنا للبلد ما زال قاصراً، بحيث خلت الساحة للتعميمات الخرافية عن شعبنا، سواء كانت تعميمات ترفعه إلى سابع سماء أو تخسف به إلى سابع أرض. كان فشل دعوة إضراب 6 أبريل الماضي مناسبة لإعادة تدوير الخرافات عن الشعب المصري، من نوع أنه خانع وأنه راضي بالاستبداد وأنه لا يريد الحرية، وهي الخرافات التي يرد عليها البعض الأخر بخرافات لا تقل شططاً عنها تقول “انتظروا.. هذا الشعب الصابر لا يمكن فهم منطقه في الحركة، فحين نظن أنه قد استكان تماماً هو ينتفض لكي يقلب الطاولة على الجميع.” الحقيقة أننا نحتاج فعلاً إلى تكاتف أصحاب العلوم الاجتماعية في مصر لكي ينقلوا إلى الناس رسالة مفادها أننا لسنا من عجينة مختلفة عن الشعوب الأخرى وأن إقامة نظام سياسي ديمقراطي حر وصالح في مصر هو بالأمر الممكن إذا عملنا بجدية على صناعته.

يقول البعض أن مصر ليس فيها طلباً على الديمقراطية. ويدلل على ذلك بأن الناس تحركت ألاف المرات مؤخراً في قضايا أكل العيش بينما لم تتحرك إلا نادراً لإنهاء الاستبداد السياسي. من الصحيح أن النضالات الاقتصادية والاجتماعية لعبت دور البطولة في المشهد السياسي المصري مؤخراً. ولكن من قال أن ذلك يعني بالضرورة أنه ليس هناك طلباً على الديمقراطية في مصر؟ فهل خواء المطاعم دليل على أن الناس كلها شبعانة، أم أنه يمكن أن يكون دليل على أن الناس بالرغم من جوعها لا تستطيع تسديد فاتورة حساب المطاعم؟ من قال أن الناس تهرب من مصر في طائرات وفي قوارب فقط بحثاً عن لقمة عيش أفضل؟ الكثير من المصريين يغادرون البلد لأنهم راغبون في حياة حرة كريمة لا تنتهك فيها كرامتهم أو أدميتهم بواسطة دولة قمعية أو بواسطة مواطنيهم من ذوى النفوذ. كاتب هذه السطور له في أسرته أو عائلته الممتدة عدة حالات هاجرت من مصر ليس بحثاً عن المال، ولكن عن أشكال من الحرية والكرامة لا يجدونها في بلدهم. وكاتب هذه السطور لمس هذا الشوق إلى الحرية لدى بعض الحرفيين المصريين الذين قابلهم في أوروبا. “الواحد كان عايش في سجن كبير”. هذه عبارة سمعتها من عامل مصري في محطة بنزين في باريس.

إذا سلمنا بأن هناك طلباً على الديمقراطية في مصر، فلماذا إذن لا ينتفض الشعب طلباً لها؟ الإجابة في اعتقادي هي أن الكثير من الناس تبالغ في تقدير “مهر” الديمقراطية أو هي غير راغبة في دفعه. وهذا “المهر” لا يقتصر فقط على تحمل بطش أجهزة الدولة القمعية. إطلاقاً. لنكن صرحاء.. بطش أجهزة الدولة في مصر لا يقارن أبداً ببطش نظام سوهارتو في اندونيسيا أو بينوشيه في شيلي أو فرانكو في أسبانيا. وكل هذه الشعوب انتصرت في نضالها الديمقراطي. لا أظن أن هذه الشعوب من طينة مختلفة عنا. ما يحول بيننا وبين الحرية والديمقراطية في مصر ليس بالأساس خوفنا من قمع الشرطة ولكن الأهم هو خوفنا من أنفسنا أو من بعضنا البعض أو من أشباح لا وجود لها إلا في أذهاننا.

ما هو ثمن الديمقراطية الحقيقي أو الوهمي الذي لا يريد بعض الناس أن يدفعوه في مصر؟ الثمن الأول هو قبول مبدأ الحريات الفردية وحقوق الإنسان. ليس هناك في الدنيا نظام واحد ديمقراطي لا يحترم حرية الفكر والعقيدة والديانة والحرية الشخصية. ليس هناك وصفة أو “تخريجة” في الدنيا يمكن أن تزاوج بين الديمقراطية والحرية من جانب وقيام الدولة بمعاقبة واضطهاد ناس بسبب فكرهم أو ديانتهم أو سلوكهم الشخصي الذي لا يمس الآخرين من جانب أخر. ليس هناك دولة ديمقراطية في الدنيا تحول دون حصول مواطن على حق والمواطنة الذي ترمز له البطاقة الشخصية لأنه يعتقد في ديانة لا توافق ديانة الأغلبية. بعض المؤسسات والتيارات السياسية والفكرية في مصر تعارض الديمقراطية والحرية لأنها تدرك أن جيداً أنه في ظل نظام ديمقراطي حر سيكون المصري البهائي مثلاً مساوياً للمسلم وللمسيحي. وهذا ما لا يريدونه حتى لو أدى ذلك إلى وقف عجلات تقدم المجتمع المصري وإهدار فرصه في التقدم والرفاهية. بعض هؤلاء يدرك جيداً أن الديمقراطية ترتبط بالضرورة بحفظ حقوق الناس في الكرامة الإنسانية، وتؤدي بالضرورة إلى الحد من الفساد والإهدار في المال العام وأنها سوف تصلنا بالضرورة إلى نظام قضائي أكثر استقلالية وعدالة. لكنهم يهدرون كل هذه المكاسب خوفاً من كوابيس تصور لهم أن ضمان الدولة لحرية العقيدة في مصر سيؤدي إلى انهيار الأديان الأساسية وتحول الملايين من المصريين إلى البوذية أو البهائية أو غيرها أو إصراراً على مناهضة المادة 40 من الدستور المصري التي تضمن المساواة بين المصريين بغض النظر عن جنسهم وأصلهم الاجتماعي وديانتهم. هذه الثمن الأول للديمقراطية الذي لا يريد البعض أن يدفعه، هو قبولهم لحق المواطن الفرد في حرية الاعتقاد والفكر والتصرف حتى لو اختار مسار في الحياة مختلف عن مسار الأغلبية. وهؤلاء في الحقيقة لو فكروا جيداً سيجدوا أن هذا الثمن زهيد جداً، بل أنه ليس ثمناً على الإطلاق. فماذا يكسب الإنسان من قهر الآخرين؟

ليس هناك نظام ديمقراطي واحد في الدنيا لا يقوم على مبدأ “مواطن واحد = صوت واحد”. مشكلة البعض في مصر أن هذا المبدأ يساوى بين الوزير والغفير، بين الغني والفقير، بين حامل الدكتوراه والأمي. هذا هو الثمن الثاني وربما الأهم الذي لا يريد البعض أن يدفعه مهراً للحرية والديمقراطية. والحقيقة أنه ليس هناك نظام ديمقراطي في الدنيا يستبعد الطبقات الشعبية من المشاركة في تقرير سياسات البلاد، أو يحرمهم من الحصول على مكتسبات وحقوق اقتصادية بفضل أغلبيتهم العددية في المجتمع. المشكلة أن الكثير من أبناء النخبة المصرية ورجال الأعمال للأسف لا يريدون أن تتساوى الرؤوس، ولا يريدون للطبقات الشعبية أن تحصل على حقوقها في أجر عادل وفي تأسيس نقابات وأحزاب حرة تمثلها. ولأنهم هؤلاء النخبويين الرجعيين لا يريدون تحمل هذا الثمن الزهيد فهم يهدرون مصالح البلاد في التمتع بنظام حر وديمقراطي سيعود بالفائدة على الجميع. وهؤلاء لو فكروا جيداً ربما لاكتشفوا أن هذا الثمن الفادح ليس ثمناً على الإطلاق، بل هو الطريق لتحقيق السلام الاجتماعي الحقيقي. لأن الحديد لا يفله إلا الحديد, والفردية الأنانية الرأسمالية الجائعة إلى الربح لا يمكن أن يفلها إلا الديمقراطية التي تعطي الناس الحق في تنظيم أنفسهم في أشكال تضامنية تدافع عن المصالح الجماعية والواسعة في المجتمع.

لسنا شعباً عاشقاً للاستبداد أو زاهداً في الحرية، ولسناً شعباً خاضعاً لحكامه ومؤلهاً لهم. ولكننا شعب خاضع لأقلية منا في الدولة أو في المجتمع، في الحكم أو في المعارضة، تريد احتجاز تطور مصر الديمقراطي لأنهم لا يريدون أن تتساوى الرؤوس وأن يخرج الناس من السجون. وللأسف – بل لحسن الحظ – ليس هناك وصفة في الدنيا تحقق الديمقراطية بدون أن تتقبل بادئ ذي بدء تساوي الرؤوس وحرية الأفراد. من يدعى أن عنده مثل تلك الوصفة هو إما جاهل أو مدعي.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *