أهم نتيجة سياسية للازمة الاقتصادية العالمية

أهم نتيجة سياسية للأزمة الاقتصادية العالمية هي إعادة الاعتبار للبديهية التي غابت عن أذهان الكثير من القوى السياسية والحركات الاجتماعية في العقود الماضية، وهي محورية الدولة في عالمنا المعاصر. لماذا غابت الدولة عن الذهن؟ بسبب السحابة اليمينية المحافظة السوداء التي جثمت على عقول المؤسسات الإعلامية والبحثية والاكاديمية منذ السبعينيات. جاء اليمين المحافظ إلى الحكم في معظم الدول الكبرى وفي المؤسسات الدولية الهامة بأجندة واضحة وهي إعادة ضبط إيقاع الدولة لكي تؤدي بكفاءة وظيفة خدمة المصالح العليا للطبقة الرأسمالية.

هناك قوتان ساهمتا في تشتيت الدولة عن أداء تلك الوظيفة.  الأولى هي نقابات العاملين الأحزاب السياسية اليسارية والشيوعية التي استطاعت فرض الديمقراطية البرلمانية واحتلال مواقع مهمة داخل أجهزة الدولة ومن ثم إخراج سياسات للدولة تراعي مصالح الطبقات العاملة. الثانية، هي بيرقراطية الدولة التي زاد دورها بشكل مذهل بسبب زيادة الصراع بين العاملين والرأسمالية. فالمهمة الأساسية للدولة وللبيرقراطية التي تديرها هي تلطيف الصراع الاجتماعي. وبما أن الصراع الاجتماعي زاد في أوائل القرن العشرين كان على الرأسمالية أن تقبل بدور متزايد للبيرقراطية. وكان ذلك مقابل ثمن معقول هو الكنيزية في الرأسماليات المستقرة سياسياً مثل أمريكا وبريطانيا، ومقابل ثمن باهظ هو الفاشية الحمقاء في البلاد ذات الرأسماليات غير المستقر سياسياً مثل المانيا وايطاليا. قبول قطاعات كبيرة من الرأسمالية بالكيزنية والفاشية مثبت تاريخياً. فتطبيق الكينزية في الولايات المتحدة لم يكن ممكناً بدون قبول أكبر جماعة مصالح مسيطرة على النظام السياسي الأمريكي وهم رجال الأعمال. ووصول هتلر إلى السلطة لم يكن ممكناً إلا بعد أن ضغطت جماعات المصالح الرأسمالية والمصرفية على الرئيس هندنبورج لتعيين هتلر مستشاراً لألمانيا بعد أن كان رافضاً لذلك.

من حسن حظ البشرية أن الحل الرأسمالي الذي ساد كان الحل الكينزي وليس الفاشي. سادت الكينزية منذ ذلك الحين وحتى الستينيات. ولكن بفعل الأزمة الاقتصادية منذ السبعينيات حدث تحول سياسي مهم تمثل في صعود يمين محافظ شبه أصولي وضع على رأس أجندته تقليم أظافر البيروقراطية والطبقات العاملة التي نفذت إلى الدولة. وقد نجح ذلك اليمين في حماية الرأسمالية من أعدائها ومنافسيها. لكن ما فشل فيه – كما اتضح في الازمة الأخيرة – هو حماية الرأسمالية من عدو لا يقل خطورة عن الشيوعية. هذا العدو هو الرأسمالية نفسها التي تتميز بقدرة فائقة على الإنتاج وقدرة أقل بكثير على التوزيع والتصريف. يبدو أن اليمين المحافظ انشغل بتحجيم البيرقراطية وبتقليص ما تقدمه الدولة للطبقات العاملة أكثر من انشغاله بتحديث أدوات الدولة في إدارة الأزمة الرأسمالية الممتدة ومنعها من التفاقم. ويبدو أن جزء كبير من المشكلة يكمن في الايديولوجية نفسها التي استخدمت كغطاء في شن الحرب على البيروقراطية والطبقات العاملة، وهي عقيدة اقتصاد السوق القادر على اشباع حاجات البشر بدون تدخل من الدولة إلا في أقل الحدود. هذه الأكاذيب أطلقها اليمين المحافظ لكي يهزم بها أعدائه. ومصيبته أنه صدقها من كثرة ترديدها. ومن هنا فهو عاجز اليوم عن بلورة تصور جديد عن دولة حديثة قادرة على ضبط حركة الرأسمالية ومنعها من تدمير نفسها. ولذلك هناك يمين جديد يشحن بطارياته لكي يتقدم في السنوات القادمة لتسلم السلطة.

وكما تؤدي الأزمة الآن إلى إعادة ترتيب موازين القوى داخل اليمين لصالح هؤلاء الذين يعتقدون في أهمية دور الدولة، فنفس الأزمة ستؤدي إلى إعادة ترتيب موازين القوى داخل اليسار لصالح الفكر الذي لم ينطلي عليه أكاذيب اليمين المحافظ من نهاية دور الدولة تحت عجلات العولمة. المهزوم غالباً ما يحاكي المنتصر. ولأن اليمين المحافظ المنتصر كان يرفع شعارات نهاية الدولة، فقد رفع اليسار المهزوم شعار نهاية الدولة بفعل “العولمة المتوحشة” وبفعل القوة المتزايدة للمؤسسات المالية الدولية. هكذا كان على اليسار المصري والعربي مثلاً أن يقسم بأغلظ الإيمان أن السياسات الاقتصادية المطبقة حالياً هي من صنع البنك والصندوق الدوليين. وحين تأتي الشواهد بغير ذلك، وحين يتبين أن السياسات الاقتصادية عليها ختم “صنع في مصر” لأنها نتاج مصالح جماعتين اجتماعيتين تسيطران على مفاصل السلطة في بلدنا وهما البيرقراطية والرأسمالية المرتبطة بها، لا تجد أذاناً صاغية. فالفكرة التافهة السائدة تحتم عليك أن تقول أن النظام المصري عميل للخارج، خاصة أن كلمة “عمالة” هي الأكثر تداولاً بين الجماعات السياسية الأخرى مثل القوميين. والأزمة الحالية ستؤدي أيضاً إلى إزاحة الفكرة التي ابتلعها اليسار من اليمين المحافظ وهي ثنائية الدولة والمجتمع المدني، بحيث أصبحت الدولة في تنافس مع المجتمع الدني والمجتمع المدني في صراع مع الدولة، وبحيث أصبح على اليسار أن “يستثمر” طاقته الأساسية في المجتمع المدني وأن يشد من أزر المجتمع المدني ضد الدولة، وكأن المجتمع المدني كله ملاك من السماء. هكذا نسينا أن المجتمع المدني والدولة ساحتان للعمل، ونسينا أن التحالف الحاكم في مصر يضم أطرافاً من المجتمع المدني وأطرافاً من الدولة، وأن كسب مساحات في المجتمع المدني لن تفيد كثيراً طالماً لم يقابلها مساحات أخرى تتحرر في الدولة.

الأزمة الاقتصادية الحالية ستزيح الكثير من الأوهام. فالمنطق وحده والتحليل وحده ليس كافياً. فالناس لا تصدق أحياناً إلا ما تراه بالعين المجردة. هكذا كان لابد أن يخرج رئيس أكبر دولة رأسمالية في في العالم وقائد أهم نظام روج لأكاذيب اليمين المحافظ ليعلن عن تدخل دولته بمقدار 700 مليار دولار حتى نقتنع بأن دور الدولة لم ينحسر وبأنها لا تزال أهم موضوع وساحة للصراع السياسي في التاريخ. فشكراً للأزمة العالمية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *