إعادة توزيع الدخل على طريقة “كل سنة وانت طيب”

المجتمع المصري يمتلك مخزون حضاري هائل. لماذا هو إذن عاجز عن مواجهة أزماته الاقتصادية والاجتماعية بشكل متحضر وعن حل أزمة الدولة المالية بشكل جذري، يحفظ المصالح الحيوية للعمال، خاصة عمال القطاع الخاص؟ العلة وفقاً لد. سامر سليمان – استاذ الاقتصاد السياسي المساعد بالجامعة الأمريكية – تكمن في المؤسسات. الجريمة العظمي لنظام مبارك في حق مصر – وفقاً له – هي أنه أعطب مؤسسات الدولة والمجتمع.
هل سمعتم عن مصري مات من الجوع؟ أنا لم أسمع. غريبة! مع أن هناك الملايين من العاطلين وممن ليس لهم دخل ثابت، وأنهم لا يحصلون على ما يحصل عليه أقرانهم مواطني الدول المحترمة من إعانة بطالة. الفقراء والعاطلين في مصر لا يموتون من الجوع لأن هناك تضامن اجتماعي. وأشكال التضامن في البلد معروفة.. التدفقات المالية بين أعضاء العائلة الواحدة البقشيش، الصدقات، بعض انواع الرشاوى، الخ. مجتمعنا إذن يقوم بحماية فقراءه من الموت جوعاً. مجتمعنا إذن فيه تضامن اجتماعي. وهو فيه ذلك لأنه مجتمع متحضر. الحضارة الانسانية هي عملية الخروج من الغابة ومنطق الغابة الذي يقوم على أن الحيوان غير القادر على الحصول بنفسه على غذائه عليه أن يأكل الجيفة أو يموت من الجوع.

مجتمعنا متحضر لأننا وبرغم الأهوال التي يعاني منها المصري لا يأكل أخاه إلا نادراً. أتذكر أنني عندما ركبت مترو باريس في ساعة الذروة – التي لا يصل مستوى الزحمة فيها إلى نصف الزحمة في مترو القاهرة – شعرت بمستوى غير عادي من العنف المكتوم والظاهر. فقلت في نفسي. الحمد الله. لو كان المصريون فيهم هذا القدر من العنف لكانوا قد نهشوا أجساد بعضهم البعض. إنه مخزون حضارة نهرية قامت على التجاور والتلاصق، على كثافة سكانية كبيرة في مساحات صغيرة. المجتمع المصري متحضر. ولولا هذا التحضر لما ساد مستوى مرتفع من الأمن والأمان يجعلنا نسير بطمأنينة بالشارع في الساعة الثالثة صباحاً، بالرغم من تهالك المؤسسات الأمنية، وتفككها وتسخيرها لأعمال ليس لها علاقة بأمن المواطن. هذا المخزون الحضاري لم ينشأ تلقائياً ولم نرثه من الطبيعة. كلا، إننا خلقناه خلقاً. إننا المجتمع الذي أسس أول دولة في التاريخ. وهذا ليس صدفة. إننا مجتمع مزدحم، متلاصق وهو لهذا يحتاج إلى مؤسسات لتنظيم وضبط هذا الازدحام.

المجتمع المصري متحضر في ثقافته الوديعة المتسامحة (التي نلعنها للاسف) التي تقدس فكرة الدولة الواحدة ربما أكثر من تقديسها لفكرة الإله الواحد. هذه الثقافة الوديعة المتسامحة تئن الآن من ضغوط الحياة اليومية ومن هول المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. السنوات المنصرمة والشهور الماضية والأيام الأخيرة تشهد حالة من العنف المتصاعد، من التدافع بالمناكب، من الدوس على أقدام الأخرين، من العراك اليومي بين الناس على لقمة العيش. حالة أدت إلى سقوط ضحايا. حالة ليس بوسعها إلا أن تدق ناقوس الخطر بأن المخزون الحضاري السلمي للمصريين يحتاج للتجدد. كيف؟ بتوبيخ المصريين؟ ممكن. بالتحذير من قلة الذوق الذي سادت وسيطرت؟ جائز. بهجاء الدولة والمجموعة الحاكمة التي تديرها؟ أكيد. لكن كل ذلك لن يوقف منحنى العنف والتوتر. المرض يحتاج إلى علاج. والعلاج الحقيقي لن يقوم إلا على تشخيص سليم. التشخيص الذي بت أؤمن به إيماني بأن الشمس تشرق من الشرق هو أن مصر مصابة في مؤسساتها. المؤسسات هي تلك الأطر التي تنظم العلاقات بين البشر. علاقة المصريين ببعضهم البعض سيئة لأن مؤسساتهم سيئة. العلة تكمن هنا يا زملائي الأعزاء. المجتمعات تتقدم وتتخلف، ترتفع وتنحدر بسبب التغيرات التي تلحق بمؤسساتها، الخاصة منها والعامة، الأهلية منها والدولتية. هذه الفكرة تعلمتها من المدرسة في العلوم الاجتماعية تسمى “المؤسسية التاريخية”، التي أتمنى أن نقوم بترجمة أعمالها الكلاسيكية.
أقول قولي هذا بمناسبة المعارك الصغيرة لكن المؤلمة التي قامت على أرض مصر في الأيام الماضية بسبب ارتفاع الأسعار. المجموعة الحاكمة قررت منذ سنوات العمل على زيادة إيرادات الدولة. وأنا أؤيد بشد أي قرار يهدف إلى زيادة إيرادات الدولة بشرطين.. ألا يؤثر ذلك تأثيراً سيئاً على الألة الإنتاجية المصرية وألا يضرب ذلك الفقراء والطبقات الشعبية. وهذان الشرطان وأسباب أخرى كثيرة لا مجال لذكرها هنا تجعلني في موقع المعارضة من السياسة المالية التي تطبقها المجموعة الحاكمة منذ عهد وزير المالية محمد الرزاز إلى عهد يوسف بطرس غالي. السياسات المالية المطبقة تعكس مصالح التحالف الاجتماعي الحاكم، وهي لن تتغير بشكل جذري إلا في ظل ظرف سياسي أفضل، تحصل مصر فيه على معارضة سياسية من نوع مختلف.
المهم والملح الأن هو قدرة الناس على التعامل مع أثار ارتفاع الأسعار. الحرب الدائرة الأن تدور لتوزيع عبء ارتفاع إيرادات الدولة المصرية. المجموعة الحاكمة أعطت 30% علاوة للبيروقراطية العاملة لديها، لأن ضمان ولاء (أو على الأقل سكون) هذه البيروقراطية هو صمام الأمن لنظام ليس له من أرضية اجتماعية إلا بعض أجنحة البيروقراطية وبعض جماعات رجال الأعمال. ولكن ماذا عن العاملين في القطاع الخاص، وبالذات العاملين منهم لدى البورجوازية الصغيرة؟ ماذا عن البائع في المحل، ماذا عن التمرجي في عيادة الطبيب، ماذا عن العامل في البنزينة؟ هؤلاء لم يعد لهم إلا عبارة واحدة يقولونها للزبائن والعملاء.. “كل سنة وانت طيب”. إيه المناسبة؟ عيد؟ لا. طهور أو سبوع؟ برضه لا. المناسبة أن هناك حاجة اجتماعية ملحة لأن تكون كل أيام المصريين أعياد، لأنها مناسبة للتضامن الاجتماعي وإعادة توزيع الدخل. ومصر كما قلت من قبل معطوبة في كل مؤسساتها المؤهلة للقيام بوظيفة توزيع الدخل من أول النقابات، مروراً بالأحزاب، ووصولاً إلى الدولة.

الأيام القادمة ستشهد ارتفاعاً ملحوظاً في استخدام منهج “كل سنة وانت طيب” في إعادة توزيع الدخل. لقد حان الوقت لكي نقول للبائعين في المحلات وللعاملين في البنزينة وللتمرجية في العيادات، أن ما نعطيهم أياه ليس حسنة، وإنما أجر لقاء عمل يقومون بها. وأن الأصل في الأشياء أن صاحب العمل هو الذي يدفع بالكامل أجر العمال لديه، وأنه حان الوقت لكي يؤسسوا نقابات لكي يتفاوضوا بشكل جماعي مع اتحادات الأعمال والتجار ونقابات الطبقة الوسطى لكي يحصلوا على أجورهم من أصحاب الأعمال وليس الزبائن. وكل سنة وانتم طيبين.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *