شكراً على صك الملكية الجديد، ولكني متمسك بصك الداخلية

من أفضال الفكر الجديد لمجموعة جمال مبارك أنه أكثر صدقاً من الفكر القديم. الفكر الجديد مثلاً يعترف بوجود فقراء لكن يغش في عددهم الحقيقي. أما الفكر القديم فلا يعترف أصلاً بوجودهم. هل تذكرون حكومات الفكر القديم التي كانت تتحدث عن “محدودي الدخل” وليس عن الفقراء؟ هكذا من منطلق الصدق اعترف جمال مبارك بأن وراء مشروع توزيع صكوك بعض شركات الدولة على المواطنين دوافع سياسية وليست اقتصادية. فقال أن “هدف هذا المشروع فى المقام الأول هو زيادة الانتماء لدى أبناء الشعب من خلال إحساسهم بأنهم المالكون لأصول الشركات المطروحة للتداول.” (المصري اليوم 25/11).

لماذا انتقلت الحكومة من طرح الخصخصة على أرضية الاقتصاد (زيادة كفائة الشركات) إلى وضعها على أرضية السياسة (زيادة الانتماء)؟ القصة لها خلفيات قديمة. فبعد أن حلبت البيرقراية الحاكمة بقرة الدولة حتى أخر قطرة لبن، وحين جفت ضروع هذه البقرة بات على قيادات هذه البيرقراطية أن تذبح البقرة وتبيعها لحم. ولأن لحم البقرة كان يذهب إلى مجموعة من الخاصة لذلك لم تكن الخصخصة ذات قبول شعبي. هنا تفتق ذهن الفكر الجديد عن فكرة شيطانية سبق لبعض دول أروروبا الشرقية أن طبقتها وهو توزيع بعض عظام البقرة في شكل صكوك على الناس لكي يصبح الجميع ملاك ومستثمرين. كلام “الفكر الجديد” كان يقول أن النمو الاقتصادي الرأسمالي يؤدي إلى رفع مستوى معيشة الفقراء، ولو بعد حين. وفكر الاقتصاد السياسي الذي أعتقد فيه يقول أن النمو الرأسمالي لا يؤدي إلى رفع مستوى الشغالين والفقراء بشكل محسوس إلا اذا امتلك هؤلاء الإرادة والأداة السياسية لكي يطالبوا بنصيب أكبر من عوائد النمو. ولأنه يبدو أنني على حق وأن عوائد النمو الذي تحقق في السنوات الماضية لم يصل إلى الفقراء، فقد قرر الفكر الجديد في أن يلقي لهم بفتات المشروعات العامة في شكل صكوك. الصك هنا له وظيفة رمزية وليست مادية، فهو لن يغني الفقير ولن يزيد الغني غنى. وهذا ما اعترف به جمال مبارك، وهو هنا أكثر صدقاً من أصحاب الفكر القديم، هؤلاء الذين روجوا لمعاش السادات ومعاش مبارك باعتبارها حلولاً مادية لمشكلة الفقر وليست إجراءات رمزية تبني علاقة أبوية بين الحاكم والفقراء.

والحقيقة أنه في السياسة لا تقل قيمة الرموز أحياناً عن قيمة السلع المادية. فمن الرموز ما يحرك الناس ليس فقط إلى العمل ولكن إلى الاستشهاد. وإلا ما فائدة الراية في الحرب؟ ولماذا يموت الجندي أحيانا للدفاع عن قطعة قماش؟ أنا متفق مع الفكر الجديد في أهمية القيم الرمزية في السياسة. ولكن إذا كانت المسألة هي القيمة الرمزية، ماذا يساوي الصك الجديد المقترح أمام صك قديم يعطيني الحق ليس فقط في ملكية متر أو ماكينة بشركة عامة هنا أو هناك ولكن يعطيني الحق في الملكية المشتركة للأرض المصرية كلها، بما عليها من أصول وبما في باطنها من ثروات؟ الصك الذي اتحدث عنه هو بطاقتي الشخصية التي أصدرتها لي وزارة الداخلية. مكتوب على هذا الصك أنني مصري الجنسية، أي من أصحاب البلد. ما هي القيمة الرمزية للصك الجديد في مواجهة الصك القديم؟ الاستاذ جمال مبارك أجاب على السؤال. فقال أنها ستوزع على الناس “دون النظر إلى ديانتهم، أو انتماءاتهم أو قدراتهم المالية”. فعم محمد البواب هنا سيحصل على نفس الصك الذي سيحصل عليه المهندس أحمد عز. وعندما يذهبان أمام شباك صرف أرباح الصكوك سيحصل محمد على نفس العائد الذي سيحصل عليه عز. بالمثل بالنسبة لعم جرجس الزبال بمنشية ناصر، وللست عطيات الشغالة في البيوت. كلهم لديهم نفس الصك ولكهم نفس النسبة من الأرباح. يعني باختصار الصكوك ستطبق المادة 40 من الدستور بحذافيرها. تلك المادة التي تقول أن “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون ي الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.”

أخيراً حكومة الفكر الجديد قررت الاستجابة لمطلب المعارضة التقدمية التي طالبت بتفعيل المادة 40 من الدستور، وإزالة كل أشكال التمييز بين المواطنين. فقد طالبت تلك المعارضة مثلاً بحذف خانة الديانة من البطاقة الشخصية لكي تتوقف أجهزة الدولة عن التفتيش في ديانة مواطنيها والتفرقة بينهم على أساس الدين. كما طالبت بمعاملة الناس في أقسام الشرطة بشكل متساوي. فكما أن مأمور القسم يستقبل ذوي النفوذ والثروة في مكتبه ويأمر لهم بشاي وبقهوة حتى تنقضي مصلحتهم، فعلى الأقل من حق المواطن العادي ألا يتعرض للإهانة. نفس المعارضة التقدمية أدانت ازدواجية المعايير في محاسبة الرجال والنساء على ماضيهم العاطفي والجنسي، كما طالبت بفتح كل المجالات أمام المرأة لكي تحصل على موقع فيها بقدر كفائتها ونشاطها وبمحاسبة من يضطهد المرأة في المجال العام أو الخاص.

نعم الحكومة استجابت، ولكن في المكان الغلط. أنا أريد بطاقة شخصية تعطيني نفس الحقوق التي تعطيها بطاقة جمال مبارك وأحمد عز وعمر سليمان. أنا أريد المساواة مع هؤلاء الناس في المجال السياسي، والحكومة اليوم تريد أن تعطيني المساواة معهم في قطعة صغيرة من المجال الاقتصادي، أي في أصول عدة شركات بائسة. ما أكبر حلم المساواة الذي تبشرنا به المادة 40، وما أتفه ما يقدمونه في شكل صكوك ملكية. ما أعظم حلم تحويل صك ملكية الوطن، أي البطاقة الشخصية إلى صك حقيقي ساري المفعول يعطينا نفس الحقوق ويرتب علينا نفس الواجبات، وما أدنى الاكتفاء بالمساواة في ملكية بعض شركات الدولة المباعة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *