الحلول الصعبة للأزمة الاقتصادية العالمية

النظام الرأسمالي يقوم على وضع أدوات الإنتاج في أيدي رأسماليين أفراد أو ممثليهم. هؤلاء هم من يقررون ماذا ننتج وكيف وبأي كميات. الدافع الأساسي المحرك لقرارتهم هو الربح. هذه هي القوة الفولاذية المحركة للرأسمالية والتي بفضلها وصلنا إلى ما نحن فيه من وفرة في الإنتاج ومن تقدم تكنولوجي خارق. مشكلة هذه الطاقة أنها كثيراً ما تكون عمياء، أي أنها تدفع الرأسماليين لإنتاج سلعاً لسنا بحاجة إليها أو سلعاً مضرة. ولكن الرأسمالية يمكن أن تتعايش مع ذلك. مشكلة الرأسمالية الكبرى أن طاقتها المحركة تصاب أحياناً بالعطب. يحدث ذلك حين تنخفض معدلات الربحية بسبب تشبع الأسواق وعدم قدرة الطلب على استهلاك المعروض من السلع أي بسبب الكساد. هذه المشكلة قديمة قدم الرأسمالية نفسها. من هنا يمكن النظر لتاريخ تطور الرأسمالية باعتباره سلسلة من المحاولات الدؤوبة لمقاومة الكساد ومنع معدل الربح من النزول الحاد.

الأزمة الرأسمالية هي أزمة اقتصادية، أي أزمة في المنظومة نفسها التي تحدد قرارات الانتاج. ولكن أدوات السيطرة على هذه الأزمات ومحاولة تلطيفها هي بالأساسي أدوات سياسية. والأداة الأهم على الاطلاق هي الدولة. فالدولة هي التي ساعدت الرأسمالية على فتح مناطق جديدة بالقوة العسكرية لتوسيع مجالات الاستثمار. والدولة هي التي ساعدت الرأسمالية لاحقاً على فتح مناطق أخرى بالضغوط السياسية وبالحوافز الاقتصادية (العولمة). والدولة هي التي ساعدت الرأسمالية على توسيع أسواقها المحلية عن طريق إعادة توزيع الدخل لصالح العمال والفقراء لكي يزيد استهلاكهم ومن ثم ينتعش الطلب. والدولة هي التي ساعدت الرأسمالية بأن انسحبت من قطاعات وتركتها للقطاع الخاص لكي ينهل منها أرباح جديدة، كما حدث منذ السبعينيات من القرن الماضي.
تاريخ الرأسمالية إذن هو تاريخ دولة تأخذ بيد هذه الطبقة. فلا حياة للرأسمالية بدون دولة تحميها ليس فقط من أعدائها بل أساساً من نفسها. هذا ما سماه المفكر السياسي الفرنسي نيكوس بولانتزاس حاجة الرأسمالية لدولة “مستقلة نسبياً” عن الرأسمالية لكي تحقق المصالح الاستراتيجية الطويلة الأجل للرأسمالية حتى لو تم ذلك على حساب المصالح القصيرة الأجل لهذه الطبقة أو على حساب بعض قطاعاتها. النموذج الأكمل لهذه الدولة تحقق من خلال الكنيزية التي أعقبت الكساد العالمي في الثلاثينيات. لكن يبدو أن هذه الدولة الرشيدة خذلت الرأسمالية في النهاية. فتدخلها زاد واستشرى، وانحرف عن مقتضيات الحفاظ على مصالح الرأسمالية إلى تنمية مصالح بيرقراطية الدولة أحياناً ومصالح الطبقات العاملة في أحيان اخرى، تلك الطبقات التي نجحت في تنظيم نفسها سياسياً واحتلال مواقع في الدولة من خلال الديمقراطية البرلمانية. ومن هنا جاء الهجوم الكبير والكاسح الذي قام به اليمين المحافظ منذ السبعينيات على دور الدولة. تحت قيادة هذه اليمين قامت الدولة بتقديم المساعدة للرأسمالية من خلال عدة طرق. أولها انسحاب الدولة من مجالات احتلتها لكي تنفتح أمام استثمارات القطاع الخاص لكي يغرف منها أرباحاً جديدة. ثانيها تسريع وتيرة العولمة من خلال تعاون الدول والحكومات واتفاقها على إزالة الحواجز بين الأسواق ومن ثم فتح مجالات جديدة أمام الرأسمالية، خاصة في مجالات الاستثمار المالي السريع. لكن في سبتمبر 2008 وصل هذا الحل لنهايته. فالمجالات التي انفتحت أمام الرأسمالية لم تنجح في إشباع جوعها اللانهائي للربح. والحلول التي طبقت (العولمة وتحرير الاقتصاد والخصخصة) أدت إلى تهميش قطاعات من السكان ألقى بها إلى البطالة والفقر، ومن ثم خسرت الرأسمالية مستهلكين كان لهم أن يعينوها على تصريف بضاعتها الراكدة. ناهيك عن إطلاق حرية الاستثمار في الأسواق المالية دفع الرأسماليين والحالمين بالرأسمالية لكي يبحثوا عن ربح سهل وسريع في البورصات وأسواق العملات.
اليوم بات على الرأسمالية أن تفيق من أوهام اليمين المحافظ والأصولي الذي صدق أكاذيبه من كثرة ترديدها. فإخلاء الدولة لمساحات أمام الرأسمالية ووقف الخدمات التي تقدمها الدولة للعمال والفقراء فرض تسييد نظريات اقتصاد السوق المعتمد على ذاته وغير المحتاج للدولة إلا في أضيق الحدود. اليوم بات على الرأسمالية أن تنشر إعلانات جديدة في الصحف تقول: “مطلوب دولة جديدة متدخلة لصالح الرأسمالية مقابل أجر مجزي.” لقد راحت على اليمين المحافظ القديم. ولو لم تستطع الرأسمالية كنس أمثال جورج بوش وجون ماكين من أجل إحلال باراك أوباما وأمثاله فالمشكة ستتفاقم.

المعضلة الكبرى أمام اليمين الجديد “الرشيد” الذي سيحتل مواقع السلطة في السنوات القادمة هي في إبداع وسائل جديدة لإنقاذ الرأسمالية من نفسها. لقد سارت الرأسمالية شوطاً كبيراً في مجال العولمة، وهذا المستوى من العولمة لا يسمح بالسير على الروشتة الكينزية في العلاج. كينز يقول “خذ من الأغنياء، وأعط للفقراء، هكذا يزيد عدد المستهلكين ومن ثم يزيد الطلب في السوق ويخف الكساد.” ماذا حدث عندما قام فرنسوا ميتران بتطبيق هذه السياسية في فرنسا في أوائل الثمانينيات؟ الذي حدث بالفعل هو زيادة قدرة الفقراء والعمال على شراء السلع ومن ثم ارتفع الطلب في السوق. الفخ هو أن الطلب زاد أساساً على سلع مستوردة وليس سلعاً فرنسية. هكذا تخلى ميتران عن الكينزية واستغنى عن حلفائه الشيوعيين في الحكومة وتبنى جزئياً برنامج اليمين المحافظ. اليوم، لكي يساهم إعادة توزيع الدخل في تنمية الطلب على السلع المحلية يجب إقامة حواجز جمركية من جديد أمام السلع المستوردة، أي يجب إعادة مسيرة العولمة إلى الوراء عشرات السنين، وهو حل صعب جداً، وممكن ان يكون مدمر لأن منظومة الإنتاج الرأسمالية تعولمت بشكل أصبح من الصعب فكه. الحل الأخر هو قيام حكومة عالمية أو شبه عالمية لكي تضمن أن إعادة توزيع الدخل لصالح الفقراء وزيادة الطلب في السوق سيصب في صالح الرأسمالية العالمية وليس بعض الرأسماليات هنا وهناك. هل يستطيع باراك أوباما أو من على شاكلته تشكيل حكومة عالمية لإدارة المصالح الجماعية الطويلة الأجل للرأسمالية العالمية؟ أشك.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *