سامر سليمان

إذا كان العمل البشري هو خالق الأشياء وهو مصدر قيمتها الوحيد، كما قال ماركس بعد سميث وريكاردو. وإذا كان سعر سلعة ما يتوقف على حجم ونوع العمل المنفق عليها، ما هي حقوق الرأسمالي إذن؟ ما هي حقوق ذلك الشخص الذي يخاطر بأمواله من أجل خلق شركات ومؤسسات يلتحق بها من يبحث عن عمل؟

كانت نظرية القيمة في العمل بمثابة القنبلة التي قذفها علم الاقتصاد السياسي على السياسة العالمية في القرن التاسع عشر. فهذه النظرية تقول أن قيم وأسعار الأشياء تتحدد وفقاً للعمل المختزن فيها. ماذا عن رأس المال إذن؟ هل يستطيع المجتمع أن ينتج دون رأس مال؟ ولكن انتظر دقيقة.. ما هو رأس المال؟ ألسنا نتحدث عن الالات والمعدات؟ يا ذكي.. من الذي قام بإنتاج هذه المعدات؟ أليس هو العمل؟ كل شيء يعود في النهاية إلى العمل. مفيش حاجة بتتحرك سنتيمتر واحد من غير عمل. الأفكار والخطط والأوامر والنواهي الصادرة عن رب العمل لن تجد لها أي ترجمة عملية في الواقع إلا إذا نفذتها عقول وأيادي عاملة. يعني العمل هو خالق الأشياء، لذلك المجتمع الحر الحقيقي هو ذلك الذي يسيطر فيه العمل على نتاج عمله. دعونا نعمل إذن لكي يتخلص العمل من هؤلاء الذين يشاركونه – دون وجه حق – في ثمرة عمله. هكذا قال الشيوعيون، وأقاموا السياسة ولم يقعدوها طوال القرن العشرين بناءً على نظرية القيمة في العمل.

نظرية القيمة في العمل نظرية مزلزلة للسياسة، لأنها تحرض العمال والعاملين على أن ينظروا لصاحب رأس المال باعتباره طفيلي، لا يعمل ويغرف بأيديه من ناتج العمل. هذه النظرية تقسم الناس على أساس الوظائف التي يشغلونها أو على أساس مصدر دخولهم. الانقسامات الأخرى بين البشر لا تهم.. اختلاف الدين، الجنس، اللغة، العرق. كل هذا لا يصنع عداوة بين البشر – الا تلك العداوة المفتعلة بسبب الظروف التي يخلقها خلقاً هؤلاء الذين يتربحون من الحروب المفتعلة بين الناس. الصراع الأساسي المشروع في المجتمع هو صراع في ساحات العمل وصراع على ناتج العمل. وهذا الصراع مشروع ليس فقط لأنه قادر على إقامة العدل والرخاء، ولكنه قادر على نقل المجتمعات من مرحلة إلى أخرى.

بسبب دفعه للسياسة صوب الصراع الطبقي أصبح الاقتصاد السياسي في أواخر القرن التاسع عشر ملعوناً، فهو علم غير مسئول لأن مقولاته تنشر الحقد والصراع الطبقي في المجتمع. وعوقب علم الاقتصاد السياسي بأن انتزع منه الاقتصاد، تأسست له أقسام في الجامعات غالباً ما تكون قريبة من أقسام إدارة الأعمال. وأصبح القانون المؤسس للعلم الجديد هو قانون “العرض والطلب”. قيم الأشياء لا تتحدد إذن بمقدار العمل المنفق عليها، بل بعدد الناس الذين يريدون شرائها. بهذا القانون اكتسح علم الاقتصاد ساحة العلوم الاجتماعية، بحيث أصبحت العلوم الأخرى تقلده. وواصل قانون العرض والطلب اكتساحه لكي يفرض نفسه على الحياة اليومية. فالناس في لغتها اليومية أصبحت تستخدم مفردات العرض والطلب. بل أن هذا القانون أصبح له تطبيقات على أدق العلاقات الانسانية مثل العلاقة بين الجنسين. فقيمة المرأة تتحدد بالطلب عليها من الرجال.

ولكن الاقتصاد الذي استقل عن السياسة خوفاً من قانون القمية والذي تأسس على قانون العرض والطلب هو في الحقيقة قد هرب من مواجهة قانون القيمة. نظرية القيمة في العمل لم تنازعها في الحقيقة إلا نظرية المُنظم entrepreneurوالتي أتت من خارج علم الاقتصاد التقليدي، من المدرسة النمساوية والتي تسمى أحيانا الاقتصاد التاريخي.. نظرية المُنظم – التي صاغها جوزيف شومبيتر – تضيف إلى عنصر العمل عنصراً أخر يتمثل في الانتربرينير، ذلك الشخص المخاطر والمبدع القادر على تجميع عناصر الإنتاج من أجل خلق مشروع جديد. هذا الشخص يخاطر بكل شيء من أجل الربح، لذلك يجب أن يكون له نصيب في ناتج العمل. بعبارة أخرى، قد يكون العمل هو بالفعل خالق الأشياء، لكن السؤال المشروع الذي طرحه شومبيتر هو كيف يتجمع هذا العمل لكي ينتج؟ لابد من وجود منظم. الرأسمالي يحصل على جزء من ناتج العمل لأنه ينظم العملية الإنتاجية.
أهمية الدور التاريخي للمنظم لن يكون عليها خلاف بين ماركس وشومبيتر. فماركس يقدر الدور التاريخي الثوري الذي لعبته الرأسمالية في تطوير المجتمعات بواسطة إدارتها للأصول الإنتاجية في المجتمع. الخلاف بينهما يتمثل في أن ماركس يقول أن وظيفة المنظم هي وظيفة ظهرت في لحظة تاريخية، ولكنها ستؤل إلى الزوال، لأن أصحاب العمل الحقيقيين قادرون على تنظيم عملهم بشكل اتحادي تعاوني حر. اتحادات المنتجين هي إذن البديل الأول للرأسمالي. البديل الثاني للرأسمالي هو الدولة نفسها التي ستلعب دور المنظم للعملية الإنتاجية.
هكذا شهد القرن العشرين محاولات تجاوز الرأسمالية إما من خلال التعاونيات، أي اتحادات المنتجين، أو من خلال قيام الدولة بوظيفة تجميع طاقات العمل وتنظيمها، أي القطاع العام.

إن تجاوز الرأسمالية في وظيفتها التنظيمية لطاقات العمل يتطلب إذن هزيمة الرأسمالية على أرضية التنظيم الاقتصادي. لقد هُزمت الرأسمالية على أرضية التنظيم السياسي (لينين). هكذا وصلت إلى السلطة حركات سياسية يسارية وغير يسارية قامت بمصادرة أملاك الرأسمالية. لكن الهزيمة الحقيقية للرأسمالية لابد وأن تشتمل على هزيمة على أرضية الاقتصاد. سيتحقق ذلك عندما يثبت أصحاب العمل الحقيقيين شيئين: أولاً: أن بمقدورهم تنظيم العملية الإنتاجية عن طريق اتحادهم الحر في الاقتصاد من خلال جماعات تعاونية. ثانياً: إن بمقدورهم تنظيم العملية الإنتاجية بواسطة قيام اتحاد لهم في أهم مؤسسة سياسية في المجتمع وهي الدولة. والحقيقة أنه لابد أن يتحقق الشرطان معاً. فقيام اتحادات ناجحة للمنتجين غير ممكن بدون التأثير على الدولة وبدون خوض صراع على الدولة يحررها من سيطرة الرأسماليين. ولكن التركيز فقط على انتزاع الدولة والسيطرة عليها بدون أن يكون هناك تقدم تحقق على الأرض في مجال تنظيم المنتجين لأنفسهم في العملية الإنتاجية يؤدي بالضرورة إلى ازاحة الرأسمالية من قيادة عملية الإنتاج ليس لصالح العاملين ولكن لصالح طبقة بيروقراطية صاعدة، سينتهي بها الحال في النهاية لأن تصبح طبقة رأسمالية جديدة. بعبارة أخرى تجاوز الرأسمالية وقيام المجتمع الاشتراكي لن يكون إلا بإقناع الأغلبية العظمي أن هناك طريقة للإنتاج تقوم على الملكية المشتركة لأدوات الإنتاج، وهذه القناعة لن تحقق فقط بشكل نظري، ولكن لابد أن يظهر لها بشائر في الواقع الرأسمالي نفسه.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *