إنه تقرير التنمية البشرية المصري

هل زيادة الدخل القومي أو الوطني في بلد ما هي دليل على أن هذا البلد يسير إلى الأمام؟ المدرسة التحديثية modernisation في الفكر التنموي تقول نعم، لكن بعض علماء الاقتصاد مثل الباكستاني محبوب الحق والهندي امارتيا سين وغيرهم قالوا لا.. العبرة بأحوال الناس. محبوب الحق لاحظ أن الدخل القومي في بلده باكستان يزيد لكن أحوال أغلبية الناس تسوء، لذلك قام بنقد ذاتي جعله يتخلى عن مفهوم التنمية التقليدي. كان اختراع مصطلح التنمية البشرية وتطويره وقياسة على يد الحق وسين وغيرهم بمثابة تحولاً هاماً في الفكر التنموي من التركيز على الدخل إلى الالتفات إلى أشياء أخرى مثل حالة الناس الصحية والتعليمية. بل أن أمارتيا سين الحائز على جائز نوبل للاقتصاد توسع في مفهوم التنمية لكي يساويها بالحرية في الاختيار. في كل المناقشات تقريباً التي أدخل فيها مع مصريين من خارج وسطي الضيق أجد أنها تنتهي بالقول أن الله وحده هو القادر على تغيير الأمر. نحن نميل إلى تفسير تلك القدرية بالثقافة الغيبية للمصريين. لكن أمارتيا سين له رأي أخر. المشكلة وفقاً له تكمن في التخلف. الفقير بالنسبة لسين هو من لا يمتلك بدائل. هذا التعريف للفقر يزيد من أعداد الفقراء بشكل كبير جداً.

الانتقال من مفهوم التنمية القائم على قياس الدخل القومي إلى ذلك القائم على قياس نسب المواطنين الذين يتمتعون بتعليم محترم وصحة جيدة وخلافه يمثل بالتأكيد تطوراً في التفكير التنموي. الدخل القومي يمكن أن يزيد لكن توزيعه قد يكون بالسوء الذي لا يستفيد من زيادته إلا أقلية. لذلك كان صدور تقرير التنمية البشرية لأول مرة في مصر عام 1994- بالتعاون بين معهد التخطيط القومي والامم المتحدة – بمثابة نقلة هامة في النقاش حول التنمية بمصر. أصبحت صحة الناس وتعليمهم بالإضافة إلى دخلهم على الأجندة. قل ما شئت عن التقرير من انتقادات (وهذا موضوع مقالي القادم) لكن يظل أن هذا التقرير منذ صدوره أصبح كنزاً لا غنى عنه لمن تعنيه التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية في مصر. بفضل هذا التقرير أصبح بامكاننا أن نعرف الفجوة بين المحافظات في مصر، أصبح لنا أن نعرف بشكل علمي دقيق أن محافظتي بورسعيد والسويس هما أفضل محافظات مصر تطوراً في البشر، وأن محافظات الصعيد هي أسوأها. لم يكتف التقرير بالمقارنات بين المحافظات بل أضاف مقارنة مفصلة بين كل قرى ومراكز وأحياء مصر بحيث أصبح لي أن أكتشف أن حي شرق ببورسعيد هو أفضل حي في مصر كلها من حيث حالة البشر، وأن مركز دار السلام بسوهاج هو أسوأها على الإطلاق.

تقرير التنمية البشرية عزيز على لأنه صاحب فضل كبير على إنتاجي العلمي. كنت بصدد إعداد فصل من رسالة الدكتوراة يجيب على السؤال الأتى.. هل زاد تمرد الجماعة الإسلامية على الدولة في الصعيد من نصيب هذا الإقليم من الاستثمارات العامة؟ كانت المجموعة الحاكمة قد أكدت في التسعينيات أنها ستزيد من نصيب الصعيد في فلوس الدولة لكي تواجه الإرهاب المنتشر هناك. بدون تقرير التنمية البشرية ما كان لي أن أنجز هذا الفصل. التقرير لم يقدم لي فقط الدليل العلمي الساطع على تخلف الصعيد، لكنه قدم أيضاً ترتيب لكل أحياء وقرى ومراكز مصر على مستوى حالتها البشرية. بفضل هذا التقرير اكتشفت أن أفقر عشرة قرى ومراكز وأحياء مصرية تضم أبشواي، طمية وملوي. ألا تذكركم هذه الأسماء بأحداث العنف السياسي والطائفي؟ ألا تذكركم بالشيخ عمر عبد الرحمن أمير الجماعة الإسلامية وغيره من قيادات الجماعات المسلحة؟ بعد أن قمت بقياس الفجوة بين الصعيد وغيره من محافظات مصر بدأت في التنقيب في بيانات وزارة التخطيط لتبين منحنى نصيب الصعيد من استثمارات الدولة في التسعينيات. وكانت المفاجأة أن كلام المسئولين معظمه كذب. فنصيب الصعيد تعرض لبعض الذبذبات في التسعينيات وأوائل الألفية الثانية لكنه لم يأخذ منحى ثابت نحو الصعود. فرحت بهذا الكشف كل الفرح. في هذه المرحلة كنت شبه مقيم في مجلس الشعب لعدة أسابيع لمتابعة اجتماعات لجنة الخطة والموازنة والمناقشات العاملة للمجلس في موضوع الميزانية. سألت عن نواب الصعيد، فأشاروا لي إلى نائب قالوا عنه أن عمدة الصعايدة. بكل فخر عرفته بنفسي وأبرزت له أوراقي التي تحتوي على الدليل الساطع على كذب الحكومة. فابتسم برقة وقال لي “لا أنا ما ليش في الكلام، أنا نائب خدمات”. هذا الفصل الذي عرقت وتعبت فيه لصالح الصعيد والصعايدة لم يحرك شعرة واحدة في رأس النائب الصعيدي.

هذه هي مأساة تقرير التنمية البشرية المصري. هو يحتوي على كنز من المعلومات التي لا غني عنها للسياسيين، خاصة من هم خارج المحافظات المحظوظة مثل بورسعيد والسويس والقاهرة. لكن أغلبية السياسيين لا يقرأون. يا خسارة على عرق محبوب الحق وأمارتيا سين الذين صكوا مفهم التنمية البشرية وفرضوه على أجندة المؤسسات الدولية. يا خسارة على مجهود معهد التخطيط القومي الذي تبنى المفهوم وشارك مع الأمم المتحدة في إعداد تقرير عن مصر. يا خسارة على عرق مئات الباحثين والعاملين المصريين والأجانب بهذا التقرير. معلش.. أنهم لا يدركون ماذا يخسرون من تجاهل هذا التقرير.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *