الدولة الوطنية في مواجهة العروبة الامريكية

أبدى الدكتور أحمد يوسف أحمد الاكاديمي والمثقف القومي العربي على صفحات جريدة الشروق انزعاجه من التقارير التي تتحدث عن إعادة اكتشاف الولايات المتحدة لقيمة العروبة التي عليها أن تكون عناوناً لحلف سياسي في المنطقة يقاوم النفوذ الايراني. والحقيقة أن ما يحدث في العراق من مصالحة بين الولايات المتحدة وحزب البعث يؤكد نفس المعنى. انزعاج الدكتور أحمد ناشيء بالطبع عن مخاوفه من يتحول “تيار له تاريخ” على حد وصفه إلى أداة في يد المشروع الأمريكي في المنطقة. والحقيقة أن مخاوف الدكتور أحمد لها أساس، بل هي لها سوابق في التاريخ. فلم تنشأ القومية العربية بمنأى عن القوى الكبرى والاقليمية. ألم تدعم بريطانيا “العظمى” تأسيس جامعة الدول العربية؟ ألم تنشأ القومية العربية في بدايات القرن الماضي كرد لفعل لمشروع تتريك الشام العربي على يد الدولة العثمانية المنهارة والمتحولة إلى دولة تركية وفقط؟ فإذا كانت العروبة في طبعتها الأولى قد بزغت كرد فعل للتتريك فإن العروبة في طبعتها الثانية تعود من باب مقاومة “التفريس”، أي التمدد الفارسي الإيراني. وغير خافي على أحد أن نظام الحكم في مصر هو الأخر بدأ في شحن بطاريته العروبية التي توارت بشكل كبير في عهد السادات والتي أوقف نظام مبارك تفكيكها.

هكذا يشن الاعلام الحكومي حملة معارضة للتدخل الايراني في فلسطين ولبنان على أساس أنها قضايا عربية لا تخص إيران في شيء. وبالتأكيد الجبهة العربية المقاومة للتوسع “الفارسي” تتقاطع مع الجبهة السنية ضد “التمدد الشيعي”. وهنا تزداد حيرة طوائف الأقليات كما هو حال مسيحيي لبنان. هل يلتحقوا بالتحالف السني العروبي كما فعل حزبي الكتائب والقوات اللبنانية على أساس أنه تحالف محافظ يحظى برعاية القوي العظمي وعلى رأسها الولايات المتحدة، أم يلتحقوا بالتحالف الشيعي الاسلامي الفارسي كما فعل تيار الجنرال ميشيل عون على أساس أن المسيحيين والشيعة أقليات في المنطقة العربية، والأقليات ليس لها إلا بضعها البعض.

المؤكد أن قوى عالمية واقليمية ومحلية قد اتفقت على النفخ في الولاءات الطائفية والمذهبية. لذلك تصبح المهمة المقدسة لقوى التقدم في المنطقة هي نزع الأقنعة والمساحيق الطائفية والثقافية عن المصالح التي تتخفي ورائها. فالسياسة في الأصل مصالح. وأسوأ أنواع السياسة هي تلك التي تخوض صراعات المصالح متسلحة بقناع الطائفية والعنصرية المقيتة. لأن صراعات المصالح عندما تتقاطع مع التقسيمات الطائفية تصبح عصية على الحل والتجاوز ولأنها تعبيء الناس في السياسة بأحط ما فيهم من نوازع متعصبة وعنصرية، الأمر الذي قد يؤدي في النهاية إلى العصف بالجميع وإلى حرق البلاد كما حدث للبنان ابان الحرب الأهلية.

وإذا كانت قوى التقدم في المنطقة عموماً تتحمل عبء إطفاء نار الطائفية والتعصب القومي على أرضية الاخوة الانسانية، فإن قوى التقدم في مصر عليها عبء مضاعف، لأن لها أرضية خاصة، أعني امتلاك مصر لدولة وطنية عريقة واضحة المعالم والحدود السياسية. وعندما تجتاح المنطقة تحالفات مذهبية وعنصرية وشوفينية تتخطى الحدود السياسية للدول يصبح الدفاع عن الحدود السياسية للدولة الوطنية أمراً واجباً، لأن الدولة الوطنية أعلى من الطائفة والمذهب والعرق. كاتب هذه السطور انساني وأممي النزعة، ولائه الأول للانسان والانسانية. لكن بما أن التحالفات الاقليمية المتعدية للحدود السياسية التي تقوم الآن – أكانت شيعية أو سنية، عروبية أو فارسية – ليس لها أي علاقة بالانسان والانسانية، وبما أنها تحالفات رجعية قمعية تقهر الانسان المنضوي تحتها، وبما أنها تتخطى الحدود السياسية لا لكي تسقط الحواجز بين البشر ولكن لكي تقيم حواجز أخرى أكثر قسوة ورجعية بين طوائف ومذاهب وأعراق، فلا بديل عن الدفاع عن الدولة الوطنية.

ليس هناك أي شك في أن الوطنية المصرية الصاعدة هذه الأيام هي في مجملها مشروعا تقدمياً بالرغم من اتسام بعض تياراتها بالعصبية بل قل بالتعصب والشطط في مواجهة العروبة. فالايام كفيلة بأن تتيح لهذه النزعة النضج الكافي لكي تقف على أرضية واثقة من نفسها ومنفتحة على خارج حدودها الوطنية. المهم هو أن يقوم تعريف الوطنية المصرية على الانتماء للأرض ليس إلا. فالمصري هو من يعيش على أرض مصر بشكل متصل متكلماً اللغة المصرية ومنتمياً للعلم المصري. الوطنية المصرية هي شرط أساسي لبناء أي مشروع تحرري في مصر وفي المنطقة. لأن حقوق المصريين في الحرية السياسية والديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل تركز نضال المصريين على إخضاع دولتهم ونظام حكمهم لمصالح جموع المصريين. من يرد إقامة نظام حكم ديمقراطي عادل في مصر لابد وأن يركز نظره على نظام الحكم القائم فيها بالفعل وبالتالي على الدولة التي يديرها هذا النظام، وبالتالي على أتباع هذه الدولة، أي المصريين. التحالفات الاقليمية الكبيرة الآن في المنطقة تحالفات رجعية. أما تحالف التقدم في المنطقة العربية وما هو أوسع منها فهو يقوم بين قوى وطنية، كل داخل وطنه يسعى لبناء الدولة الديمقراطية الوطنية القائمة على الأرض وليس على طائفة أو مذهب. إذا كان البعض معنياً بالفعل بأن تلعب مصر دوراً اقليمياً نشيطاً فأهم ما يمكن أن تقدمه هو أن ترسخ أولاً من الطابع الوطني لدولتها وأن تساعد البلاد الشقيقة على بناء وترسيخ دولها الوطنية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *