ما بعد تديين السياسة في فلسطين ومصر

لن تقوم لمنطقتنا قائمة إلا بعد تخلى التيارات السياسية القائمة على الدين، من كافة أديان الشرق الأوسط، عن استكبارها واستخفافها بمصالح الناس الحياتية. تديين السياسة – أكان يهوديا أو اسلاميا أو مسيحياً – جعل من المنطقة أكبر مكان في العالم طارد للسكان لو استطاع هؤلاء لذلك سبيلاً. ضع تيار تديين السياسة في سلطة أي بلد، ستجد الخراب والدمار قد حل به. العلمانية السياسية هي قانون تطور المجتمعات البشرية. هي تمر بمنحنيات ومطبات، لكنها في الاخر تنتصر. مشكلة العقل قصير النظر أنه لا ينظر إلى تيار تديين السياسة نظرة تاريخية، نظرة ترى انتقال هذا التيار من الصعود إلى الهبوط.

تيار تديين السياسة أمسك بعقل مصر بعد هزيمة 1967، فأصيب العالم العربي بالعدوى. من يتغنون بالدور المصري في المنطقة عليهم أن يراجعوا أنفسهم. مصر كانت تصدر القمح في عهد الامبراطوريات الرومانية والعربية، وكانت تصدر القطن في عهد الرأسمالية الصناعية, وأصبحت تصدر الدين المسيس في عهد الرأسمالية المالية والريعية النفطية. حماس عليها ختم “صنع في مصر”. لذلك على الدولة المصرية أن تشيل قضيتها. ليس لمصر أن تشتكي من عبء القضية الفلسطينية. أيادينا البيضاء امتدت لاخواننا في فلسطين، كما امتدت إلي اخواننا في الجزائر. يحكى أن الرئيس عبد الناصر تخلص من المدرسين الاخوان بارسالهم ليعلموا العربية إلى أهالي الجزائر. لم تنقض عدة سنوات حتى كانت الجبهة الاسلامية للانقاذ تخوض حرباً أهلية من أجل الاستيلاء على السلطة. مصر لم تلعب دوراً تقدمياً في المنطقة منذ فترة طويلة. أخر نموذج تقدمي منحته مصر كان ثورة الاستقلال في عام 1919، أول ثورة استقلال شعبية في المنطقة العربية. لكن مصر لم تقدم للاسف ثورة سياسية أو اجتماعية أخرى. ثورة 23 يوليو كانت انقلاب، مع الاعتذار لكل عشاق الحكم العسكري.

من زمن والاخوان المسلمون يقولون للفلسطينيين “أخوة الدين هي العاصم لكم من الهزيمة أمام الاستعمار الصهيوني. الأمة الاسلامية ستهب لنجدتكم.” لذلك خرج علينا مؤخراً زعيم حماس خالد مشعل مبتسماً وشاكراً للأمة دعمها لفلسطين. واجه مشعل كاميرات التلفزيون بابتسامة, بينما الجالسون أمام التلفزيون ليس لهم إلا التجهم والأسى من مشاهد الأطفال الملفوفين استعداداً للدفن. ماذا قدمت لك الأمة يا أخ مشعل، ماذا قدم لك تنظيم الاخوان؟ فتح معبر رفح؟ مبروك.. ماذا بعد؟ حتى الآن لم أقرأ أو أسمع لكم أو لتنظيمكم الأم في مصر كلمة مفيدة في كيفية تحرير فلسطين. الانتصار العسكري؟ واضح انه مستحيل، ليس فقط لنوعية السلاح الذي يحمله الجندي الاسرائيلي، بل لنوعية الجندي نفسه. هذه هي الحقيقة. الجندي الاسرائيلي متعلم تعليماً أوروبيا بينما الجندي العربي متعلم في الكتاتيب وفي الشوارع. إنه التقدم يا أخي.

إذن ما هي خطتكم لتحرير فلسطين؟ النضال البيولوجي والديمجرافي؟ انجاب الاطفال يعني؟ هذه ليست خطتكم؟ الشعب الفلسطيني لجأ بتلقائية إلى هذه “الخطة” منذ عدة عقود، قبل أن تظهروا على الساحة الفلسطينية. أبو عمار نفسه كان يقول ذلك.. “سنهزمهم بالديمجرافيا ، سنهزمهم بالانجاب، سنهزمهم بنسائنا”. لكن إسرائيل دولة متقدمة وحديثة، وهي لديها ناس ساهرة على مصالحها. لذلك فقد تحركت لفصل مناطق التركز السكاني الفلسطيني عنها، كما تحركت بخطة مدروسة للاستغناء عن العمالة الفلسطينية. يبدو أن النضال البيولوجي لن ينفع إلا في حالة فلسطينيين إسرائيل. مع العلم أن إسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولة الاستيلاء عليها من الداخل. وهذا موضوع أخر.

حماس ليس لديها أي فكرة عن كيفية تحرير فلسطين، وهي في سبيلها إلى التوقف عن القتال ضد إسرائيل والذي لم تحقق منه أي نتائج على الأرض بالرغم من شجاعة وفدائية مقاتليها. الحرب التي تدور في غزة ليست حرب بين حماس وإسرائيل. بل أنها حرب بين إسرائيل وحماس من جهة والنظام المصري من جهة أخرى. إسرائيل تريد تصحيح الحماقة التي ارتكبتها في 1967 حينما احتلت غزة. هي تريد فصل غزة عنها نهائياً، وحماس مرحبة بالفصل لأنه سيفصلها عن رام الله. الهدف السياسي لحماس في الحرب الأخيرة هو فتح معبر رفح. فحماس تريد أن تنفتح على مصر لأن تلك الطريقة الوحيدة كي لا تلتحق بالضفة الغربية وتخسر السلطة في غزة. اللعبة كانت كالتالي.. إسرائيل تقتل الغزاويين.. قناة الجزيرة تصور المذابح.. حماس تمثل أنها تحارب.. والاخوان وحزب الله يضغطون على النظام المصري لكي تحتضن مصر غزة. مبروك للاخوان المسلمين، مبروك لإٍسرائيل. أوشكت غزة أن تعود للإدارة المصرية. وعادت حركة التحرر الوطني الفلسطيني أربعون عاماً إلى الوراء قبل 1967. لكن مفيش مشكلة.. طظ في فلسطين، زي ما طظ في مصر. ألم يقل المرشد العام للاخوان منذ عدة أسابيع، “ومالها إمارة اسلامية في غزة، مش احسن من امارة صهيونية أو علمانية”؟

هذه هي النتيجة الحتمية لسيطرة التيار الديني على السياسة. في كل منطقة سيطر عليها هذا التيار كان المصير هو تفتيت الأوطان، من السودان جنوباً إلى لبنان شمالاً، ومن الهند والعراق شرقاً إلى الجزائر غرباً. والبقية تأتي. مع أن الشعار الأساسي لهذه التيارات هو الوحدة وهي فعلاً حركات ناتجة عن المخاض الصعب لعملية الحداثة الرأسمالية بما تصحبه من عملية تفكيك للمجتمعات ولنمو النزعات الفردية الانانية. المشكلة أن أدوات هذه التيارات في مقاومة التفتت والفردية محدودة. هم يقاومنوها بالأسرة وبالقبيلة وبدور العبادة. لكن الفردية هي قرين الرأسمالية، والرأسمالية نظام اقتصادي. الحديد لا يفله إلا الحديد. الرأسمالية كنظام اقتصادي لا يفلها الا الديمقراطية كنظم سياسي واجتماعي. ولكن مشكلة الديمقراطية السياسية انها لا تعجب النظم ولا تعجب الاصوليين من كافة التيار السياسية، ومشكلة الديمقراطية الاجتماعية أنها لا تعجب مصاصي الدماء من الملاك.

تيار تديين السياسية يسقط. سقط في فلسطين بعد أن داست حماس على نضالات الشعب الفلسطيني وفصلت عزة عن الوطن الأم وألحقتها بمصر. سقط في لبنان بعد أن زالت أوراق التوت عن الشيخ نصر الله ولم يبق منه إلا وجهه الطائفي المتحالف مع أسوأ نظم المنطقة مثل النظامين الايراني والسوري، وسقط في مصر حينما تعامل الشعب والجيش المصري باستخفاف مع دعوة زعيم ميليشيا حزب الله لهم بالتخلى عن نموذج الدولة وتبني نموذج الميليشيا. لكن سقوط النموذج لن يفضي إلى سقوط التيار نفسه إلا عندما يظهر البديل السياسي لتيار تديين السياسة. والساحة السياسية الأساسية للمعركة هي مصر، فكما أن حركة التحرر الوطني والسياسي في المنطقة انطلقت من مصر في عام 1919، وكما أن تديين السياسة لم يسد المنطقة إلا بعد أن أمسك بعقل وقلب مصر، فلن تقوم لحركة التحرر السياسي والاجتماعي قائمة في المنطقة إلا عندما تقرر مصر ذلك. فمتى نقرر؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *