الدولة ووظيفة النموذج

يكاد الكل يجمع على أن الدولة في مصر سيئة في أدائها لوظائفها. ويرى بعضنا أن الحل هو تحويل كل ما تيسر من وظائف الدولة إلى القطاع الخاص. لكن تظل هناك وظائف مستعصية على التحويل.. على رأسها وظيفة الرمز أو النموذج، هذه الوظيفة التي جعلت حكام الدولة المصرية القديمة يشيدون مباني عجيبة مثل الاهرامات.

يرى الكثير من علماء التاريخ أن شعبا مصر والعراق هما أول من اخترع الدولة في العالم. لذلك فالقلب يصاب بالاسى بسبب محنة دولتي مصر والعراق. بالتأكيد محنة العراق أشق وأقصى لاسباب كثيرة منها لعنة النفط، وجرائم نظام البعث والامبريالية الامريكية وأمراء الطوائف في حق دولة العراق. نحن أفضل حالاً، لكننا بالتأكيد نمر بمخاض صعب. قل ما شئت عن أداء مؤسسات الدولة السيء في جميع المجالات السيادية والخدمية. ولكن لقضية لا تقف عند هذا الحد. الدولة ليست فقط كياناً مادياً يتجسد في مؤسسات تقدم خدمات محسوسة.. الدولة بالتأكيد أكثر من الشرطة والجيش والقضاء والمرور. الدولة فكرة في عقولنا قبل أن تصبح مؤسسات نراها ونعاين أثارها في الواقع. الدولة هي رمز لوحدة جماعة بشرية ما كان لها أن تتوحد بدون الدولة.

لقد أخطأت اللبرالية حين لخصت دور الدولة في وظائف الأمن والعدالة والدفاع وبعض المرافق العامة. هناك وظيفة أخرى للدولة تستحق أن نتكلم عنها بشكل مستقل وهي الوظيفة الرمزية.. أي وظيفة النموذج. الدولة مطلوب منها أن تقدم النموذج للمجتمع وأن تكون أفضل منه. لذلك فدساتير كل دول العالم تقول أشياء جميلة أفضل من الواقع بكثير. فدستور جمهورية مصر العربية على سبيل المثال يتحدث عن أن مصر دولة نظامها ديمقراطي يقوم على المواطنة (المادة 1) وأن المواطنين متساويين أمام الدولة (مادة 40). وبالرغم من أننا نعرف جميعاً أنه لا الدولة نظامها ديمقراطي ولا المواطنون متساوون أمام الدولة، فلم يطالب أحد منا بأن نعدل الدستور لكي يعكس حالة الواقع.. فنكتب في الدستور مثلاً أن مصر دولة نظامها ديكتاتوري يقوم على قهر المواطن، أو نكتب أن المواطنين غير متساويين أمام الدولة.

الدولة هي رمز لوحدة جماعات مختلفة، متفرقة في أشياء كثيرة ولكنها تجتمع في التفافها حول دولة أو في تبعيتها لها. الدولة مثلها مثل المسرح، يلتقي فيها ناس مختلفون لكي يشاركوا في إنجاح مسرحية واحدة، سواء بالتمثيل أو بالمشاهدة. هذه المسرحية ستكون ذات صلة بالواقع، ولكنها لن تكون الواقع نفسه، فهي عليها أن ترسم صورة لواقع متخيل أفضل من الواقع الحالي. علاقة المجتمع بالدولة الصالحة هي علاقة الواقع بالفن الخلاق. فكما أن الواقع يتأثر بالفن الحقيقي ويحاكيه، فالمجتمع يمكن أيضاً أن يمتثل للدولة ويقتدي بها عندما تعطي الدولة النموذج.

أداء الدولة المصرية لا يحظى برضاء المجتمع. لكن يبدو أن أقل الوظائف التي تحصل على رضاء المجتمع هي وظيفة النموذج. لهذا تتعالى أصوات المثقفين بالشكوى من غياب “مشروع قومي”، ذلك الشيء الذي يجتمع عليه كل المصريين بغض النظر عن اختلافاتهم وخلافاتهم. ولهذا هناك حنين جارف إلى مرحلة التحرر الوطني التي اجتمع المصريون فيها على مقاومة المحتل البريطاني أو الاسرائيلي. يروى الدكتور رؤوف عباس واقعة دالة وهي أنه في أحد لقاءات المثقفين برئيس الجمهورية قال له أحدهم “عايزين مشروع قومي يا ريس”. فكان رد مبارك بمثابة دش بارد على دماغ الكل. فقد رد عليه بأن المشروع “القومي” موجود وهو المجاري! والمشكلة ليست فقط في الرد، ولكن في السؤال نفسه. المشكلة أن المثقف هنا كان يطالب مبارك بالمستحيل. فالرئيس مبارك على قمة مجموعة بيروقراطية تدير الدولة. والبيروقراطية مطلوب منها التنفيذ وليس الخلق والإبداع. من عنده مشروع قومي للمجتمع كله عليه أن يتفضل لكي يطرحه ويناضل لكي يفرضه على البيروقراطية ولكي يراقب أداءها لكي يتحقق من أن الأمور تسير على ما يرام.

الدولة في مصر مطلوب منها أكثر بكثير من تقديم بعض الخدمات والمرافق. الوظيفة الرمزية للدولة في مصر كانت ذات أهمية استثنائية. فدولة مصر القديمة كان لها وظائف حيوية تقوم بها على رأسها ضبط نهر النيل وإدارة شئون بقعة مزدحمة بناس متجمعة حول شريان مائي واحد. ومع أن هذه الوظائف كانت تكفي وزيادة لشغل الدولة، إلا أن هذه الدولة كان عليها أن تشيد مباني عجيبة في ضخامتها وفي مغزاها. أعتقد أن أهرام الجيزة تحتوي على أحد أهم أسرار الدولة المصرية.. أسرار وظيفتها الرمزية. تلك الوظيفة التي أدتها بشكل استنزف موارد مادية وبشرية هائلة. فلنعترف أننا نحتاج من الدولة أكثر من الخدمات المادية. فلنعترف أننا نحتاج من الدولة أن تعطينا النموذج والرمز.. لكن بشرط أن نصوغ نحن هذا النموذج وهذا الرمز. لأننا كلما تركنا الدولة المصرية تصوغ الرمز، ينتهي بها الأمر أن تقوم ببناء أهرامات، كان أخرها هرم توشكى. يكفينا ما بنته الدولة من أهرامات في الماضي.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *