الشيطان الكامن في تفاصيل الأنباء السارة للدكتور غالي

للدكتور يوسف بطرس غالي فضل على الباحثين في مالية الدولة المصرية. منذ حوالي خمس سنوات كان على أن أتخبط في دهاليز مجلس الشعب ووزارة التخطيط لكي أحصل على بيانات وزارة المالية، لأن المسئول الثاني عن هذه الوزارة كان غيوراً على المعلومات لدرجة أن العاملين معه تندروا فقالوا أنه لو دخل مكتبه جريدة لأصبحت هذه الجريدة من الوثائق الرسمية التي لن تخرج إلا بأمر وزاري. هكذا كان على أن أذهب إلى مؤسسات ذات صلة بوزارة المالية لكي أحصل على بيانات وزارة المالية. وإمعاناً في تسلية الباحثين باعتبار أنهم ناس فاضية كان على أن أنقل البيانات رقماً رقماً بشكل يدوي، لأن التصوير في مؤسسات الدولة حرام أو على الأقل مكروه. اليوم أصبح لي أن أحصل على الأرقام الفعلية لإيراد وإنفاق الدولة وأنا مرتاح في مكتبي 24 قيراط، لأن التقرير الشهري لوزراة المالية يحتوي الأن على الأرقام الفعلية. فشكراً للدكتور غالي لأنه أعفاني من الشحططة وراء بياناته في مؤسسات صديقة. والحقيقة أن بيانات إيرادات وإنفاق الدولة في مصر هي من أغلى البيانات. فالميزانية كما قال الاقتصادي الاشتراكي الألماني رودلف جولدشيد هي الهيكل العظمي للدولة منزوعاً عنه كل شحوم إيديولوجيات التجميل. فللدولة أن تقول ما تشاء عما تفعله، لكن ما تفعله فعلاً مسجل في الميزانية العامة. فالدولة لا تتحرك قيد أنملة إلا بمصروفات، وهذه المصروفات مسجلة، أو على الأقل جزء مهم منها كما في مصر!

الدكتور غالي صرح في الأسبوع الماضي أن إيرادات الدولة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت، وأن إيراداتها من الضرائب زادت وإن العجز في الميزانية انخفض، وهي كلها أخبار سارة لمن يتمنى للدولة أن تحافظ على أحد المقومات الأساسية لبقائها وتجددها.. المال. فالحقيقة أن الحفاظ على إيرادات كافية كان وسيظل أحد المشاكل الأساسية للدولة المصرية التي عانت منذ منتصف الثمانينيات من عجز مزمن في الميزانية بسبب انخفاض قدرة إيرادات الدولة الريعية – من بترول وقناة سويس ومساعدات خارجية – على إعانة ميزانية لا يأتيها من أموال دافعي الضرائب الميسورين إلا القليل. لم تسلم الدولة من الانهيار المالي إلا في أوائل التسعينيات بفضل حماقة صدام حسين الذي غزا الكويت ومن ثم قامت الدنيا وبالتالي خرجت الدولة هنا ببعض مغانم هذه القيامة مثل إلغاء نصف الديون الخارجية للدولة. هكذا تحسنت كل مؤشرات مالية الدولة في أوائل التسعينيات ، وهو التحسن الذي تغنت به كل أبواق نظام الحكم في الإعلام “القومي”. ولكن هذا التحسن في المؤشرات لم يضلل العديد من الاقتصاديين المصريين الذين حافظوا على مسافة من نظام الحكم مثل الدكاترة الأفاضل جلال أمين وجودة عبد الخالق وابراهيم العيسوي والمرحوم رمزي زكي. هم قالوا للناس ما يعرفونه جيدا. قالوا أن القوة الأساسية المحركة للاقتصاد المصري ولمالية الدولة المصرية منذ السبعينيات كانت الإيرادات الريعية التي تأتي بشكل مباشر أو غير مباشر من الذهب الأسود الذي قلب منطقتنا رأساً على عقب في خلال عدة عقود. وهذا الذهب الأسود وصل إلى قمة مجده في السنوات الأخيرة سواء لأسباب سياسية (الغزو الأمريكي للعراق) أو أسباب اقتصادية مثل صعود بلاد مثل الصين والهند وحاجتها لتدفقات هائلة من الطاقة. فتش عن النفط. هذا هو ما تعلمته من الدارسين النابهين للاقتصاد السياسي للمنطقة مثل الدكاترة حازم الببلاوي وجياكومو لوتشياني أصحاب الكتاب البالغ الأهمية “الدولة الريعية في العالم العربي”. فلنفتش عن النفط في ميزانية الدولة.

لقد دلل وزير المالية على أنباءه السعيدة بأرقام. المشكلة أن الأرقام التي يبني عليها الوزير حكمه هي أرقام إجمالية غير تفصيلية. ولأن شيطان التفاصيل هو قديس الباحثين، لذلك فقد أغراني هذا الرجيم أن أعود إلى التقرير الشهري لوزارة المالية ذاتها وأن أفتح أنفي جيداً لالتقاط أي رائحة للنفط في زيادة إيرادات الدولة من الضرائب. والمفاجأة المتوقعة هي نعم.. نعم الذهب الأسود هو المسئول. قانون الضرائب الجديد الذي دخل إلى الخدمة في عام 2005 لم ينجح (بعد؟) في تغيير قدرة الدولة على استقطاع إيرادات من المجتمع وعلى توزيع أعباء هذه الإيرادات بشكل متناسب مع القدرة التمويلية لدافع الضرائب. والدليل على ذلك هو أرقام وزارة المالية ذاتها. الأرقام تقوم أن المسئول الأساسي عن زيادة إيرادات الدولة من ضرائب الدخل في السنتين الماضيتين هي مدفوعات الهيئة العامة للبترول وهيئة قناة السويس. أما نسبة إيرادات ضرائب شركات الأموال الخاصة إلى الناتج المحلي الإجمالي فقد انخفضت في السنة التي أعقبت تطبيق القانون – 2005/6 – ثم عادت في السنة التالية إلى مستواها قبل تطبيق القانون 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي وظلت ثابتة عند هذا المستوى خلال العام الماضي. للأمانة الدكتور غالي كان قد صرح قبل تطبيق القانون أن ثماره لن تأتي إلا بعد عدة سنوات. حسناً فلننظر قبل إصدار الحكم النهائي. لكن المؤشرات الأولية التي تتراكم تقول أن مشكلة مالية الدولة المصرية لن يستطيع أن يحلها خبراء من ألمع العقول في مصر تولوا مسئولية وزارة المالية في السنوات الأخيرة هما د. مدحت حسانين ود. يوسف غالي لأن المشكلة ليست فقط في وزارة المالية، ولكنها في الدولة كلها وفي طبيعة نظام الحكم الذي يدير هذه الدولة. فالتكليف المباشر وغير المباشر لأي مسئول نابه في مصر هو أن يُصلح في موقعه إذا شاء ولكن بشرطين، ألا يمس المصالح الأساسية التي يعتمد عليها نظام الحكم في تجدده وألا ينتظر أي تغيير سياسي ضروري للإصلاحات. والمشكلة هنا أن الضرائب قضية سياسية مثلما هي اقتصادية. لن تنصلح مالية الدولة بشكل جذري إلا بتأسيس نظام حكم ديمقراطي أو بمعجزة. فلينتظر من يشاء المعجزة. أما نحن فليس لنا إلا أن نمجد الديمقراطية، القوة الجبارة القادرة على إقامة مالية الدولة المتعثرة، لأنها الوحيدة التي لها أن تقيم علاقة صحية بين جامع الضرائب ودافعها.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *