الصراع على تمثيل ملايين العمال

شهد الأسبوع الماضي تصاعد وتيرة الصراع بين الاتحاد الرسمي للعمال من جهة ووزير القوى العامة والنقابات العمالية المستقلة من جهة أخرى. من يمر بشارع الجلاء، وهو من أهم شوارع القاهرة وفيه مقر جريدة الأهرام، لا يفوته أن يرى مقر اتحاد العمال الرسمي وهو مزين بلافتات تطالب المجلس العسكري بإقالة وزير القوى العاملة. لم تكن يافطة من هذا النوع متصورة قبل الثورة، ولم يكن صدام بهذا الحجم بين الاتحاد الرسمي ووزير القوى العاملة ممكناً قبل سقوط مبارك. فوزير القوى العاملة في نظام مبارك، بل وقبله، يأتي من قيادات الاتحاد العام الرسمي. وغالباً ما كان رئيس الاتحاد يتم تصعيده لكي يتولى هذا المنصب.

لماذا يريد الاتحاد الرسمي إقالة وزير القوى العاملة؟ لأن الوزير الجديد الذي جاء بناء على اقتراحات تقدمت بها بعض المجموعات النشطة في الثورة للمجلس العسكري قد أقر بحق النقابات العمالية المستقلة في الوجود، وزاد على ذلك بأنه أعد مشروع قانون يعترف بالتعديية النقابية. هكذا طبقاً لتوجه الوزير الجديد لم يعد اتحاد العمال الرسمي محتكراً تمثيل العمال، بل بات عليه أن يتنازع في هذا التمثيل مع نقابات جديدة جاءت بشائرها قبل الثورة، ثم تسارع تأسيسها بعد سقوط نظام مبارك. ظهرت أول نقابة مستقلة وغير خاضعة لسيطرة الدولة سنة 2009 مع تأسيس نقابة العاملين بالضرائب العقارية. وقد تأسست النقابة بعد إضراب ناجح وبعد أسابيع من الاعتصام أمام وزارة المالية. لكن اتحاد العمال الرسمي لم يعترف أبداً بالنقابة الجديدة. فهو يرفض بشكل قاطع التعددية النقابية على أساس أنها سوف تفتت العمال. بينما يرفض أنصار التعددية النقابية هذه الحجة على أساس أن تعدد النقابات حق أساسي للعمال معمول به في البلاد الديمقراطية وهو يتيح للعمال أن يختاروا النقابة الأصلح التي تعبر عن مصالحهم.

عندما قامت الثورة تسارع إنشاء نقابات أخرى مستقلة على غرار نقابة العاملين بالضرائب العقارية. لماذا يلجاً بعض النشطاء العماليين لتأسيس نقابات خارج الاتحاد الرسمي للعمال؟ يعتقد مؤسسو النقابات المستقلة أن اتحاد العمال الرسمي قد انتهى. فهو خاضع تماماً لسيطرة الدولة، وانتخاباته كان يسودها التدخل الأمني، خاصة من قبل جهاز مباحث أمن الدولة، الأمر الذي وضع على رأس الاتحاد أعضاء من الحزب الوطني سخروا الاتحاد لخدمة مصالحهم الخاصة وعاثوا فيه فساداً. ويزيدون على ذلك أن اتحاد العمال الرسمي لم يخض تقريباً أي معركة لصالح العمال. فالإضرابات التي كان العمال يلجأون إليها في العقود الماضية كانوا يقومون بها بعيداً عن الاتحاد الرسمي، بل وكثيراً ما كان غضب العمال يكون موجهاً ضد الاتحاد الرسمي، كما هو موجه ضد مالكي الشركات أو ضد الدولة. بالإضافة إلى ذلك لعبت الخصخصة والتوجه لاقتصاد السوق دوراً كبيراً في إضعاف الاتحاد الرسمي. فهذا الاتحاد يضم بالأساس عمال القطاع العام. لكن هؤلاء لم يعودوا يمثلوا معظم العمال كما كان الحال حتى الثمانينيات من القرن الماضي. الكتلة الكبيرة من العمال اليوم تعمل في القطاع الخاص وهي تظل خارج أي نقابات. وقد كان لسياسات مبارك الليبرالية دوراً أساسياً في إضعاف الاتحاد العام حيث أن الدولة قد تخلت كثيراً عن دعم العمال مما أظهر الاتحاد العمال المرتبط بالدولة في صورة عاجزة عن حماية العمال.
ضعف الاتحاد العمالي الرسمي إذن ليس وليد اليوم. لكن الضربة القاصمة للاتحاد جاءت عندما اندلعت ثورة يناير وعندما ألقت قيادات الاتحاد العمالي بكل ثقلها إلى جانب مبارك إلى الحد الذي دفعها لتنظيم مظاهرة اتهمت الثوار بالخيانة والعمالة للخارج. وبعد نجاح الثورة اتُهم رئيس الاتحاد بأنه أحد المنظمين لموقعة “الجمل” التي مات فيها العديد من المتظاهرين عندما اعتدت عليهم مجموعات من البلطجية، مما أدى إلى حبسه احتياطياً. كما تعرضت لنفس التهمة وزيرة القوى العاملة السابقة، عائشة عبد الهادي، التي كانت هي الأخرى من قيادات الاتحاد الرسمي للعمال قبل أن تتولى المنصب الوزاري. هذه الاتهامات التي أصابت قيادات اتحاد العمال أضعفت بالفعل من الاتحاد نفسه وشجعت النشطاء العماليين من مؤسسي النقابات المستقلة على شن حملة ضغط على الحكومة والمجلس العسكري لحل الاتحاد الرسمي تماما باعتباره من مخلفات النظام القديم شأنه شأن الحزب الوطني. هؤلاء النشطاء يقولون باستحالة إصلاح هذا الاتحاد من داخله. فالقانون الحاكم للانتخابات النقابية يسمح ببقاء عناصر وكوادر تجاوزت سن المعاش في عضوية لجان مهنية وهمية. هذه العناصر هي التي تشكل الأن قيادات الاتحاد العام.

وعلى الجانب الأخر يرى البعض أن الاتحاد العام بأصوله ومقراته وببنكه (البنك العمالي) بجامعته العمالية هو ملك العمال جميعاً ولا يجب التضحية به. ويرى هؤلاء أن هناك إمكانية لإصلاح الاتحاد من داخله عن طريق تعديل القانون الحاكم للانتخابات النقابية من أجل ضمان عدم ترشح من كفوا عن العمل كعمال ولكي يفتح باب الترشح فوراً أمام كل العمال. من الجدير بالذكر أن شهري نوفمبر وديسمبر القادمين سيشهدان انتخابات النقابات العمالية، وأن القانون الجديد للنقابات العمالية يمنع العمال على المعاش من الترشح، الأمر الذي قد يسمح بإزاحة القيادات القديمة وإدخال قيادات ودماء جديدة.

القرار الخاص بمستقبل الاتحاد العام لنقابات العمال حساس جداً لأنه سيؤثر على قدراتهم التنظيمية والتمثيلية في المرحلة المقبلة الهامة والتي تشهد كتابة دستور جديد للدولة، كما تشهد إعادة النظر في التشريعات والسياسات الخاصة بالنظام القديم والتي ستؤثر جميعها على العمال. الرهان فقط على تمثيل العمال من خلال النقابات المستقلة قد يكون رهاناً على المستقبل المتوسط والبعيد. لكن النقابات المستقلة اليوم لا تضم إلا عشرات الالاف من العمال. فإذا حُل الاتحاد الرسمي اليوم فهذا يعني أنه لن يمثل العمال إلا نقابات ناشئة قد يكون أمامها سنوات لكي تمتلك لها قدرة تمثيلية لمعظم العمال. وبالتالي يرى البعض أنه من الأسلم الحفاظ على الاتحاد القائم بالفعل مع إصلاحه من خلال تعديل قوانينه ومن خلال قيام العديد من النشطاء بالترشح فيه من أجل إزاحة الوجوه القديمة. ويبدو الآن أن اتجاه وزارة القوى العاملة والمجلس العسكري هو عدم حل الاتحاد العام وأن يظل موجوداً جنباً إلى جنب مع النقابات المستقلة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *