محاكمة حسنى مبارك: الحقيقة قبل العقاب

نشرت: يوليو 2011 – في الشروق

كمواطن مصري مشكلتي مع الرئيس مبارك لم تكن فقط ديكتاتوريته وضيق أفقه، ولكن امتناعه عن الكلام الجدي. تخيلوا.. رئيس حكم شعباً لمدة ثلاثين عاماً دون أن يكلمه إلا من خلال نص ممل وتافه صاغه مجموعة من الكتبة مطلوب منهم معجزة تحويل الفسيخ إلى شربات، أو يكلمه من خلال حوارات صحفية أو تلفزيونية كان يتكرم على الشعب بها مع إعلاميين منتقين مطلوب منهم ألا يسألوا إلا الأسئلة العامة أو التافهة. لم يرد مبارك على أي من الأسئلة التي كانت توجه إليه من أفراد الشعب طوال ثلاثين عاماً. كان يحيط نفسه بجيش عرمرم من الأمن المادي والمعنوي يقيه شر السؤال. لم يستطع المصريون إجراء حوار جدي مع مبارك إلا من خلال الحيلة والمباغتة. في عام 2005 مثلاُ نجح الراحل الدكتور محمد السيد سعيد في مباغتة الرئيس وعاجله بأسئلة واقتراحات في لقاء الرئيس السنوى بالمثقفين في معرض الكتاب. النتيجة كانت تعالي الرئيس على السائل ورفضه الإجابة عن الأسئلة واتهامه لسعيد بالتطرف! والنتيجة كانت تأكد الناس كلهم أن الرئيس ليس له في الحوار الذي هو أحد أهم ملكات السياسي الحقيقي.

لست قاضياً لكي أحكم على حسني مبارك بالسجن أو بالبراءة. وفي الحقيقة لا يعنيني كثيراً أن يُلقى بمبارك في زنزانة باردة بقية حياته. مبارك يعيش في سجن العزلة والوحدة والمهانة حتى ولو سكن في قصر جدرانه مطلية بالذهب. ما يعنيني كأحد المواطنين في هذا البلد هو أن يتكلم حسنى مبارك، هو أن تجبره سلطة على الحديث للشعب الذي حكمه طوال ثلاثين عاماً دون أن يتحاور معه ولو مرة واحدة. وما يقلقني هو أن هناك قوات لازالت تحيط بمبارك لكي تحميه من شر السؤال وأن محاكمته التي أعلن عن أنها ستكون في الثالث من أغسطس لم يتأكد بعد أنها ستكون علنية ومتاحة للشعب.

إسقاط نظام مبارك لا يكتمل إلا عندما يقف مبارك على رجليه أمام سلطة اتهام لكي توجه له أسئلة واتهامات محددة يجب أن يجيب عليها. ما يسرى على مبارك يسرى على غيره من المسئولين في النظام السابق. السلطة الانتقالية لا تعطينا حتى الآن إلا صور لهؤلاء المسئولين وهم بملابس السجن، عل مشاعر التشفي تطفيء ظمأنا للمعرفة وتكبت شوقنا لأن نستنطق كل هؤلاء في محاكمات علنية لكي يشرحوا للشعب لماذا فعلوا ما فعلوه وكيف فعلوه. والأهم هنا هو كيف فعلوا ما فعلوه. لأن سؤال الكيف هو عن الآليات، عن التفاصيل، وهو المدخل لإبطال هذه الآليات. الأهم من الخلاص من الطاغية هو الخلاص من الطغيان. نفي أو إعدام طاغية لا يحمي من ظهور غيره. لقد نُفي الطاغية فاروق الأول ملك مصر. لكن نفيه لم يمنع من ظهور طغاة جدد. أليس كذلك؟ لو كنت قاضياً وعلى أن أحكم على مبارك وأعوانه، لحكمت على مبارك بأن يتم اقتياده للتلفزيون لكي يجلس أمام مجموعة من المحاورين فيكيلوا له الأسئلة والاتهامات وليحققوا ما شاءوا من انجازات مهنية بإجراء حوارات مع رئيس مخلوع.

تصفية الحساب مع نظام مبارك لا تعني فقط عزله أو إعدامه وسجن القائمين على نظامه، وإنما الأهم هو معرفة دقيقة ومتاحة لآليات عمل هذا النظام وكيف أثر على الدولة على المجتمع. يخطيء من يظن أن الخلاص من نظام مبارك يعني فقط الإجهاز على مبارك نفسه وأعوانه. الخلاص من تراث نظام مبارك لا يقل أهمية عن الخلاص من النظام نفسه. نظام مبارك أدار الدولة لمدة ثلاثين عاماً وفرض سلطته على المجتمع لنفس المدة. هذه الدولة وهذا المجتمع تعرضا لزلزال عنيف بسبب الثورة. لكن الملامح العامة للمجتمع والدولة لم تتغير كثيراً. استنطاق المسئولين السابقين تساهم في تسليط الضوء على الآفات التي أمسكت بخناق الدولة والمجتمع في السنوات الماضية. مبارك هو المرآة التي من خلالها ننظر إلى قبحنا وإلى خطايانا كشعب. هو التجسيد السياسي الأعلى لكل ما فينا من جهل وقبح وتعصب وأنانية وظلم وتعالي على الضعيف. يجب أن يواجه الشعب نفسه في محاكمة مبارك وأن يرى خطاياه متجسدة فيه. المجد لمن نزلوا في الشوارع لكي يدافعوا عن حق الشعب في الاستماع لمحاكمات أركان النظام السابق، الحق الذي يريد البعض من شعبنا التخلي عنه.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *