الوداع يا نظريات تبرير الاستبداد – كيف فشل مفكرو السلطة في تخيل أن الثورة الديمقراطية المصرية ممكنة؟

نشرت: ابريل 2011 – علي الأنترنت

في نهاية عصر مبارك دخل إلى هامش عالمه مجموعة من أساتذة وباحثي العلوم السياسية والاقتصادية من خريجي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. على رأسهم على الدين هلال، عبد المنعم سعيد، يوسف بطرس غالي، محمود محيي الدين، صفي الدين خربوش، مصطفي علوي وغيرهم. أقول أنهم كانوا على هامش عالم مبارك ونظامه لأن نظام مبارك هو في الأساس نظام بوليسي، يعتمد على آلة القهر التي تسيطر على الأجساد أكثر بكثير مما اعتمد على آلة الإقناع التي عملت بقدر أو بأخر في عصر عبد الناصر والسادات.

هذه الكتيبة من خريجين كلية الاقتصاد والعلوم السياسية كان لها هامش تلعب فيه في نظام مبارك البوليسي، هو هامش الأفكار. هؤلاء التحقوا بنظام مبارك بالطبع بناء على روح عملية أو انتهازية. هم أصحاب كفاءات لا شك في ذلك. من ينكر ذكاء وكفاءة على الدين هلال وعبد المنعم سعيد ويوسف بطرس غالي ومحمود محيي الدين؟ هم انتهازيين من أصحاب الكفاءات. وقد حلوا محل عناصر محدودة الذكاء والقدرة. عبد المنعم سعيد مثلاً حل محل إبراهيم نافع صاحب المقالات عديمة الطعم والرائحة، الذي شاع عنه نكتة أن كتابه أكثر من قراءه، أي أن عدد الذين يكتبون له أكثر من عدد الذين يقرئونه.

لماذا التحقت هذه العناصر الذكية بنظام مبارك الغبي؟ بسبب الانتهازية؟ طبعاً. ولكن هؤلاء هم انتهازيون أذكياء. والانتهازي الذكي يلتحق بالمعسكر القوي وليس المعسكر الخاسر. في الحقيقة هؤلاء كان لديهم حسبة خاطئة. هم أكثر الناس إدراكاً لغباء وضيق أفق نظام مبارك البوليسي، لأنهم وإن كانوا على هامش النظام فهم قريبون من المطبخ بشكل كاف لكي يدركوا عمق السوس الذي ينخر فيه. حساباتهم الخاسرة نابعة من عدم إدراكهم أن هناك شيء اسمه قوة الشعب، أن هناك مراكز قوة تتشكل أحياناً خارج جهاز الدولة لكي تصنع حركة جارفة في المجتمع وتصبح طرفاً في المعادلة السياسية. قد يذكر بعضنا مقالات عبد المنعم سعيد منذ عدة شهور الذي تحدث فيها عن الهامش السياسي، أي عن كل حركات مناهضة النظام الحاكم الموجودة خارج الأحزاب الرسمية ومجلسي الشعب والشورى، والتي اعتبرها جماعات من المراهقين أو المجانين.

هناك أهمية قصوى الآن ليس فقط لإدانة هؤلاء على أرضية الانتهازية، ولكن أيضاً لدحض نظرياتهم العلمية المزيفة عن قوانين التغيير. بالنسبة لهم التغيير لا يأتي إلا من الدولة، من تفاعلات داخلها. ومن هنا حاولوا الدخول إلى المطبخ السياسي. لم يلعبوا لعبة التغيير من الدولة فقط ولكنهم فكروا أنه يمكن اللعب أيضاً من داخل النظام. فالتفوا حول جمال مبارك ابن الرئيس المتعلم والمطلع على العالم الخارجي أكثر من والده. اعتقدوا أو ادعوا أن الطريق الوحيد للتغيير هو الالتفاف حول ابن الرئيس لكي يفوزوا بالسلطة السياسية بواسطته ومن ثم يستطيعوا تطبيق برنامجهم. بالطبع الشخصي هنا يتداخل مع الموضوعي، والانتهازية تتداخل مع طريقة التفكير. ما يهمنا هنا هو مناقشة النظرية الكامنة خلف تحركات هؤلاء الأشخاص، أو النظرية المبررة لتحركاتهم إذا اعتبرنا أن النظرية مجرد تبرير لممارسات انتهازية.

التنظير للاستبداد في مصر والدفاع عنه باعتباره شيء حتمي ممكن أن يأخذ طبعة شعبية من نوع “الشعب المصري ما ينفعش معاه إلا الكرباج” كما أنه يتخذ في بعض الأحيان طبعة أكاديمية. في نسخته الأكاديمية غالباً ما يقوم تبرير الاستبداد على نظرية كارل فيتفوجل الشهيرة بنظرية “الدولة النهرية”. صنف فيتفوجل في كتابه الشهير، الاستبداد الشرقي(1)، مصر كحالة متأصلة من المركزية السياسية المبنية على حتمية جغرافية، وهي تمركز مصدر الحياة في نهر النيل، مما يجعل سكان البلاد سجناء للسلطة المسيطرة على شريان الحياة هذا. وهو الأمر الذي يختلف عن حالة البلاد التي تعتمد على الأمطار. فهنا يصعب على سلطة مركزية أن تستبد لأن شريان الحياة يأتي من السماء ومن ثم تصعب السيطرة عليه. كانت خلاصة فيتفوجل هي ما يأتي: عندما يكون سكان البلاد معتمدين على الأنهار، لا على الأمطار، ستجد السلطة السياسية هناك مركزية، بل استبدادية. إنها فكرة منطقية جداً، ولكنها تعرضت لانتقادات عنيفة داخل في العلوم الاجتماعية. أولاً لأنها تقوم على حتمية جغرافية، أي اعتبار أن الجغرافيا هي العامل الوحيد الفاعل في تحديد طبيعة المجتمعات وإليه يرجع كل شيء. ثانياً، أن نظرية الدولة النهرية في تطبيقاتها على تاريخ مصر تتجاهل الكثير من الثورات الشعبية والكثير من أحداث التمرد التي قام بها السكان ضد الحكومة المركزية. هنا يجب الإشارة إلى الكتاب الهام جداً لجابريل باير “دراسات في التاريخ الاجتماعي لمصر الحديثة” (2) الذي فند فيه بالمعلومات مقولة أن الشعب المصري لا يتمرد. النظر لتاريخ مصر باعتباره سلسلة طويلة من الاستبداد السياسي التي يخضع لها سكان البلاد تقوم على منهج خاطئ في قراءة التاريخ يركز على تاريخ الحكام ويتجاهل تاريخ الشعوب. والحقيقة أن جهود مراجعة تاريخ مصر لبيان دور الشعب المصري في مقاومة الاستبداد لا تنحصر في علم التاريخ والعلوم الاجتماعية، بل نجد أيضاً محاولات في الكتابة الأدبية نذكر منها على سبيل الخصوص هنا الرواية الرائعة لسلوي بكر “البشموري” والتي تعرضت فيها لثورة الشعب المصري على طغيان السلطة العربية واستنزافها للشعب في عهد الخليفة المأمون، وهي الثورة التي كانت من القوة بحيث اضطر المأمون للزحف بنفسه على رأس جيش لإخمادها. ثالثاً، يمكن قبول أن يكون لنهر النيل دور في المركزية والاستبداد في مصر الزراعية، أي تلك التي كان مصدر ثروتها الأساسي هو فلاحة الأرض. ولكن منذ القرن التاسع عشر يترك القطاع الزراعي مكانه كمصدر الثروة لتحل محله الصناعة والتجارة والخدمات التي يعمل بها معظم أبناء الشعب المصري في العقود الأخيرة. لذلك فالبحث عن جذور الاستبداد المصري المعاصر لا يجب أن ينطلق من الجغرافيا ولكن من السياسة والاقتصاد.

بالطبع تظل الدولة في مصر الحديثة لها أهمية استثنائية وتظل هي مصدر أساسي لتغيير المجتمع وتحديثه، لكن ليس صحيحاً أبداً أن المجتمع هنا غير موجود أو غير فاعل، بل هو كثيراً ما يأخذ مبادرة التغيير والتحديث. فحتى تجربة محمد على في تحديث مصر والتي قامت على قيادة الدولة لعملية التغيير يتناسى البعض أنها أتت أساساً بمبادرة من الشعب المصري ونخبته. ألم يأت محمد على إلى الحكم بناء على اختيار علماء الأزهر وبعض قيادات الشعب له؟ وإذا انتقلنا للقرن العشرين فسوف نجد أن الحدث السياسي الأبرز في مصر الذي أوصل البلاد إلى بدايات الاستقلال السياسي كان ثورة شعبية هي ثورة 1919. ومن هنا فإن الرؤية الموضوعية المتوازنة لتاريخ مصر لابد وأن ترى التغيير في مصر باعتباره محصلة التفاعل بين المجتمع والدولة وإنه في بعض الأحيان تأتي المبادرة من المجتمع وفي أحيان أخرى تأتي من الدولة. ثورة يناير 2011 هي نموذج لتغيير جارف أتى من الشعب وبالذات من قطاعاته الأكثر معرفة ووعياً. لقد أسقطت ثورة 2011 نظرية التغيير في مصر لا يأتي إلا من جهاز الدولة.

يرتبط بنظرية الدولة المركزية المصرية الطاغية والمسيطرة على كل شيء فكرة أن الشعب هو مجموعة من الحيونات الاقتصادية التي لا تهتم إلا بمليء بطونها أو تحسين ظروفها الاقتصادية. وانطلاقاً من ذلك تحدث على الدين مراراً وتكراراً عن نظرية انعدام الطلب على الديمقراطية في مصر. فهو كان يقول بأن مصر ليس بها ديمقراطية لأنه ليس بها طلب على الديمقراطية. قانون العرض والطلب القادم من علم الاقتصاد النيوكلاسيكي يؤكد أن الدنيا كلها عرض وطلب. هذا القانون طبقه الدكتور هلال على السياسة المصرية فوصل إلى النتيجة السالفة الذكر. طالما أن الشعب لا يطالب بالديمقراطية إذن فهو غير محتاج للديمقراطية. كما يقول المثل الأثير لدي التجار في مصر “اللي ما عوش ما يلزموش”. وبما أننا لم نذهب إلى السوق لشراء الديمقراطية، إذن نحن لا نريد حقاً هذه السلعة. ولكن في الحقيقة ان بقاء السلع على الرفوف دون بيع ليس دليلاً على أن الناس لا تريدها. معظم الأحيان تكون الناس في أمس الحاجة إليها لكنها لا تمتلك الثمن المطلوب؟ لقد كان هناك طلب شعبي للحرية وللديمقراطية، لكن الناس كانت فقراء أمام ثمن الديمقراطية الباهظ؟ هذا ما يسميه عالم الاقتصاد جون مينارد كينز بالطلب غير الفعال، أي الطلب الذي لا يتملك قوة شرائية؟

في ثورة يناير 2011 تأكد أن هناك طلب في مصر على الحرية والكرامة والعدالة الانسانية. هذا الطلب لم ينشأ لحظة الثورة. هو احتياج قديم، لكنه لم ينفجر إلا في ذلك التاريخ لأن الشعب المصري لم يكن يمتلك أدوات التخلص من نظام الحكم الفاسد والفاشل. وعندما تراكمت عبر السنوات قدرات تنظيمية جديدة للشعب المصري من خلال ثورة الاتصالات والانترنت اثمرت هذه القدرات في النهاية عن ثورة نجحت في هدم دعائم الاستبداد وقامت عن طيب خاطر بدفع ضريبة الدم قرباناً للحرية والديمقراطية.

هنيئاً لنا بإسقاط نظام مبارك، وهنيئاً لنا أيضاً بإسقاط كل النظريات المزيفة وغير العلمية التي ادعت أن الشعب المصري من طينة أخرى غير الشعوب وأنه لا يثور أبداً وأن من يرد التغيير والإصلاح فليس لديه من طريق إلا الانحناء لنظام الحكم ومحاولة إصلاحه من الداخل. لقد رفعت الثورة المصرية رأس كل مصري وأزاحت عنه ذل وعار الخضوع لديكتاتور فاسد وحاكم فاشل. وهي رفعت من رأسنا نحن – باحثي العلوم الاجتماعية – الذين ناضلوا بالفكر ضد كل النظريات والأفكار البالية التي بررت إذلال الشعب وأثبطت من عزيمته. المجد لشهداء الثورة وجرحاها ومعتقليها وكل من قدم الدم والعرق في سبيلها.

1) WITTFOGEL Karl. Oriental despotism. New haven: Yale university press, 1957.
2) BAER, Gabriel. Studies in the Social History of Modern Egypt. Chicago: University of Chicago Press, 1969.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *