قد أفلح من تحزب

نشرت: ابريل 2011 – في الشروق

عائلة مصرية تريد حل مشكلة داخلها بشكل توافقي. ماذا تفعل؟ يمكن لهذه العائلة أن تجلس مع نفسها ومن ثم تتخذ القرار. شعب مصر يريد أن يقرر أمراً ما يخصه. ماذا يفعل؟ لا يمكن لشعب من 80 مليون مواطن أن يجلس في مكان واحد. البديل هو أن تجتمع هيئات لها قدرة على تمثيل الشعب. أهم هذه الهيئات هي الأحزاب السياسية التي تشكل كتل داخل مجلس الشعب. في أكتوبر القادم سيكون لدينا مجلس شعب جديد منتخب. السؤال هو: عندما يجلس البرلمان المصري في سبتمبر 2011، هل يكون ذلك بمثابة جلوس الشعب المصري مع نفسه؟ إلى أي مدى سيمثل مجلس الشعب القادم النسيج المتنوع للشعب المصري؟

في ظل النظام الديكتاتوري السابق كان مجلس الشعب في واد والشعب في وادي أخر. لم يكن يشارك في اختيار مجلس الشعب إلا أقلية من المصريين: حوالي الخمس طبقاً للأرقام الرسمية، وحوالي العشر إذا نحينا جانباً أصوات الموتى والغائبين التي كان تضاف زوراً إلى الأصوات الصحيحة. إذا أضفنا إلى ذلك أن معظم المصوتين كانوا من قليلي التعليم وقليلي الدخل بما أن الانتخابات كانت تقوم أساساً على تقديم الرشاوي الانتخابية أو الخدمات المباشرة، من الممكن أن نستخلص أن هذا أن مجلس الشعب المصري لم يكن في الحقيقة مجلساً لشعب مصر.

من هنا لم يكن صدفة أن تغيب قطاعات بأكملها من الشعب عن الحضور في البرلمان. سأقيس هنا على مجلس شعب 2005 الذي شهد أقل انتخابات تزويراً في عهد مبارك بفضل بعض الإشراف القضائي على الانتخابات. لن أقيس على انتخابات 2010 لأنها مهزلة لا تستحق اسم انتخابات من الأصل. لم يدخل في مجلس 2005 إلا 4.5% من شخصيات لها خلفية عمالية بالرغم من أن القانون يعطي للعمال والفلاحين نصف مقاعد مجلس الشعب. أقول شخصيات لها خلفيات عمالية، لأن معظم هؤلاء “العمال” بمقياس الدخل لم يعودوا ينتموا بأي حال من الأحوال للعمال. هكذا كاد العمال أن يغيبوا تماماً عن هذا المجلس. والأمر نفسه ينطبق على الفلاحين الذي كان يدخل باسمهم إلى البرلمان العديد من لواءات الشرطة السابقين. ولم يدخل هذا المجلس إلا أربع سيدات ومسيحي واحد هو يوسف بطرس غالي استطاع أن ينفذ إلى مجلس الشعب بموارد وزارة المالية التي سخرها لصالح حملته الانتخابية. هذه مجرد أمثلة على جماعات من الشعب المصري كانت مهمشة بالكامل في “أفضل” برلمان شهده عصر مبارك.

إذا كنا نريد أن نحصل في سبتمبر القادم على مجلس شعب جدير بإسمه، يجب أن يكون عندنا أحزاباً حقيقية يستطيع من خلالها أن ينفذ ممثلين عن مختلف قطاعات الشعب المصري. كلنا ندرك بالطبع الضعف الراهن للأحزاب المصرية. هذا الضعف في الحقيقة لا يجب أن يُفسر بانصراف الشعب المصري عن السياسة. لقد أسقطت ثورة يناير 2011 هذه الكذبة الرخيصة. فالشعب المصري لم يكن منصرفاً عن السياسة ولكنه كان عازفاً عن سياسة الكذب والخداع والتزوير. والشعب لم يكن منصرفاً عن الأحزاب، لأننا في الحقيقة لم يكن لدينا أحزاب. الحزب بالتعريف هو منظمة تسعى للوصول للسلطة. لم تكن أحزاب المعارضة أحزاب حيث أن أملها في الوصول للسلطة كان معدوماً. والحزب الوطني لم يكن حزباً لأنه لم يكن أكثر من واجهة لأجهزة الأمن وشبكات الفساد التي سيطرت على البلاد. بسقوط مبارك وحزبه ودخول البلاد إلى مرحلة انتقالية قد تصل بنا إلى نظام ديمقراطي بدأت بعض قطاعات الشعب المصري في الإقبال على الأحزاب السياسية إدراكاً منها لأهمية الأحزاب في بناء مستقبل أفضل لمصر. لقد شهدت الساحة السياسية في الأسابيع الأخيرة عدة مبادرات لتأسيس أحزاب جديدة انضم إليها الآلاف من المصريين. لكن يظل العديد منا في حالة تردد أمام الانضمام لأحزاب سياسية، ليس عزوفاً عن السياسة بشكل عام ولكن عزوفاً عن الأحزاب أو عن الأحزاب القائمة بالفعل. وهذا الموضوع يحتاج وقفة.

البعض منا يقول أن المرحلة الحالية بما فيها من تحديات كبرى تواجه الشعب المصري تستدعي بناء تحالفات واسعة وليس أحزاب. وهذا في الحقيقة قول خاطئ. نعم المرحلة تقتضي تحالفات، لكن في النهاية التحالفات تقوم بين أحزاب وهيئات لا أفراد. إذا أردنا فعلاً بناء تحالفات فعالة بين قوى سياسية لابد بادئ ذي بدء أن يكون لدينا أحزاب قوية تشكل عماد هذه التحالفات. ومن هنا الشعب المصري ليس لديه بديل إلا دعم الأحزاب القديمة أو بعضها أو دعم الأحزاب الجديدة أو بعضها. أعرف أن الكثيرين غير راضين عن حالة الأحزاب المصرية كلها، قديمها وجديدها، وهذا شيء منطقي ومقبول. فالأحزاب القديمة في حالة تكلس وركود. وباستثناءات قليلة كانت تلك الأحزاب غائبة تماماً عن الحدث السياسي الأهم الذي شهدته مصر في العقود الأخيرة وهو ثورة يناير. والأحزاب الجديدة تعمل تحت ضغط هائل بسبب سيف الوقت المسلط على رقبتها. فهي عليها أن تنجز في 5 شهور جمع 5 ألاف توكيل وبناء هياكلها التنظيمية وكتابة برامجها وترجمة برامجها إلى كلام شعبي موجه لمختلف قطاعات الشعب، واختيار بعض أعضائها للمنافسة على مقاعد البرلمان ودعمهم في حملاتهم الانتخابية، الخ. من هنا يكون من الطبيعي أن تشهد هذه الأحزاب تحت التأسيس ارتباكاً تنظيمياً وإنهاكا شديداً.

من المنطقي ألا يكون الشعب المصري راضياً عن أحزابه السياسية، ولكن من غير المعقول أن يكون عدم الرضاء هذا مدعاة للانصراف عن الأحزاب. فالمدخل الوحيد لتطوير الأحزاب أو بناء أحزاب جديدة هو المشاركة في الحياة الحزبية القائمة بالفعل. بالتأكيد لن يكون باستطاعتنا في الشهور القادمة التي تسبق انتخابات البرلمان أن نحصل على أحزاب تنافس في كفاءتها تلك الأحزاب الموجودة في البلاد العريقة في الديمقراطية. فكما أنه من المستحيل على بلد بلا ملاعب كرة قدم أن يحصل على لاعبين مهرة، فبالمثل لا يمكن لبلد بلا ملاعب سياسية أن يحصل على كوادر سياسية عالية الكفاءة. نحن حديثي العهد بالسياسة. يجب أن نقبل هذه الحقيقة ونواجهها بشجاعة. ليس لدينا رفاهية الانصراف عن الأحزاب السياسية في هذه المرحلة. فلندخل في الأحزاب القائمة، ولندعم مبادرات الأحزاب الجديدة وننضم إليها أو على الأقل نساعدها من خارجها. وبانقضاء الانتخابات البرلمانية القادمة يمكن لغير الراضين عن كل الأحزاب أن يؤسسوا أحزاباً جديدة. بدون ذلك لن يكون بمقدورنا أن نحصل على مجلس شعب ممثل إلى حد ما للشعب المصري. فلنذكر أن الانتخابات القادمة من المرجح أن تكون بالقوائم النسبية وبالتالي أن تلعب فيها الأحزاب دوراً حاسماً. مستقبل مصر يتوقف في جزء كبير منه على دعم الشعب المصري لأحزابه. فلنتحزب جميعاً. فالتحزب فريضة وطنية هذه الأيام.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *