العمل مع الدولة.. تجربتي مع تقرير التنمية البشرية

كان الاستاذ جمال مبارك واقفاً ليجيب على أسئلة الحضور، بينما كان الدكتور حسام بدراوي يجلس على المنصة لكي يتلقي الأسئلة. كان ذلك في عام 2006 أثناء حفل إطلاق تقرير التنمية البشرية الذي حرصت على حضوره تقديراً مني لهذا التقرير المهم، صاحب الفضل على إنتاجي العلمي كما شرحت في مقالتي الماضية. جلست وأمسكت بالنسخة العربية للتقرير في يدي وأخذت أتصفح الفهرس. وقعت عيني على فصل في التقرير عنوانه “فكر جديد في التنمية”. انتقلت عيني من التقرير إلى الاستاذ جمال مبارك صاحب مصطلح “الفكر الجديد” وأحسست أن دشاً بارداً نزل علي دماغي. قلت في نفسي يا نهار أسود، هل وصل “الفكر الجديد” إلى تقرير التنمية البشرية؟ خرجت بسرعة من القاعة لكي أبحث عن نسخة انجليزية من التقرير، فهذا التقرير يكتب أولاً بالانجليزية ثم يترجم إلى العربية. بحثت في الفهرس وأنا ألهث لكي أجد الأصل الانجليزي لكلمة “فكر جديد في التنمية”، فوجدت أنها paradigm وهي كلمة أظن أن ترجمتها الأفضل هي نموذج وليس فكر. لم أفكر كثيراً، طلبت الكلمة وتحدثت عن أفضال تقرير التنمية البشرية على البحث العلمي في مصر وعن عدم جواز اختطافه لصالح مجموعة سياسية هنا أو هناك وسألت كيف يجوز ترجمة paradigm بفكر؟ لم يرد السيد جمال مبارك بالطبع لأن السؤال لم يكن موجهاً إليه. الرد جائني في اليوم التالي من جانب الدكتورة العزيزة هانيا الشلقامي التي اتصلت لكي تنفي أية شبهة نية سيئة في الترجمة. انتهت المكالمة وأنا أتمنى لتقرير التنمية البشرية أن يحافظ على الحد الأدني من الاستقلالية عن المجموعة الحاكمة. هذا التقرير يصدر بالتعاون بين الامم المتحدة ومعهد التخطيط القومي الذي هو من مؤسسات الدولة. ومن البديهي أن مؤسسات الدولة تديرها المجموعة الحاكمة. لذلك فمن المنطقي أن تكون يد هؤلاء حاضرة في التقرير، على الأقل في المقدمة التي يكتبها وزير التخطيط. لكن التقرير يظل مملوكاً لنا لأنه صادر عن مؤسسة دولة. هكذا أتعامل دائماً مع مؤسسات الدولة من أول الشرطة إلى المرافق. لذلك لم أتردد كثيراً في قبول الدعوة الكريمة التي وجهتها إلى الدكتورة هبة حندوسة لكتابة فصل في تقرير 2008 رغم علمي أن هذا التقرير – بفعل صدوره عن مؤسسة عامة – سيكون به عيوب كثيرة.

من العيوب ما أشار إليه الدكتور نادر فرجاني في حديثه لجريدة المصري اليوم 22/5/2008 من تحديد معدل الفقر بمصر بحوالي 20%. التقرير يستند إلى معيار الدخل (أقل من 120 جنيهاً في الشهر للفرد) كما للعجز عن الوفاء بالاحتياجات الأساسية. لست أملك جهازاً إحصائياً بديلاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الذي يحصي عدد الفقراء في مصر. ولكن من تجولي في بلادي ومن مشاهداتي بالعين المجردة لا يمكن أن أصدق أن الفقراء في مصر 20% فقط. الفقير بالعربي هو من لا يتمتع بحياة مقبولة. هل يقبل القائمون على الجهاز المركزي للإحصاء بالشروط التي يحيا في ظلها 80% من المصريين؟ أشك.

تقرير التنمية البشرية المصري يخاف من إعلان النسبة الحقيقية للفقر في مصر بالرغم من أن مفهوم الفقر نفسه ليس به أي طابع جذري أو ثوري. مفاهيم الفقر تشير إلى جماعة من السكان باعتبارها مستحقة للمساعدة من قبل الدولة أو من قبل الميسورين. وهذه مغالطة لأن الكثير من الفقراء لا يستحقوا المساعدة ولكن الإنصاف. العامل العرقان الذي يحصل على 200 جنيهاً في الشهر ليس بالأساس فقيراً، ولكنه مُستغل. هو يحتاج إلى أجر عادل وليس إلى حسنة من الدولة أو من غيرها. مفهوم الفقر إذن يغطي غالباً على مفهوم الاستغلال. كما أن النظر لقطاعات كبيرة من السكان باعتبارهم غلابة ومساكين يحط من قدر هؤلاء لأنهم في الحقيقة مظلومين لا يحتاجوا للشفقة ولكن إلى العدل. الكلام عن المظلومين والمستغلين وليس عن الفقراء والمساكين هو مدخل التغيير. فالمظلوم يمكن أن طالب بحقه بينما الفقير ليس له إلا أن يطالب بالمساعدة. الإحصاءات الحكومية إذن تقلص من نسبة الفقراء ليس خوفاً من الثورة ولكن خوفاً من الجرسة، لأن الفقر عار لا يحب مجتمعنا المنافق والكذاب الحديث عنه.

من العيوب أيضاً تبني التقرير لمعايير الفقر القائمة على الدخل والاحتياجات الأساسية وإهماله لتعريف الفقر كما صاغه الأب الروحي لمفهموم التنمية البشرية الاقتصادي الهندي أمارتيا سين بأنه الافتقاد للبدائل أو للقدرة على الاختيار. تعريف سين يخرج بنا من النظر للانسان باعتباره حيوان مستهلك إلى النظر له بوصفه حيوان سياسي كما قال أرسطو من زمن بعيد. القدرة على الاختيار غالباً ما تتطلب التمتع بالحرية. لذلك لم يكن غريباً أن يخصص سين الحائر على جائزة نوبل في الاقتصاد جزء كبير من مجهوده العلمي لدراسة العلاقة بين التنمية من جانب والحرية والديمقراطية من جانب أخر. تقارير التنمية البشرية المتعاقبة تهمل تماماً الممارسة السياسية. وتقرير 2008 ليس فيه إلا بعض الإحصاءات المحدودة عن التصويت في انتخابات مجلس شعب 2000. ليس هناك ذكر لانتخابات 2005 وليس هناك ذكر لحقيقة أن الأغلبية الساحقة من المصريين لا تتمتع بالحق في تقرير مصيرها.

إذا تركنا الإحصاءات وتعرضنا للمحور الذي ركز عليه تقرير 2008 وهو المجتمع المدني فهنا أتفق مع ما كتبه الدكتور مجدي عبد الحميد في هذه الصفحة (23/5/2008) بأن التقرير رصد منظمات المجتمع المدني الخيرية لكنه أهمل منظمات حقوق الانسان. بالطبع اعتراف تقرير صادر عن مؤسسة عامة بأهمية دور المجتمع المدني هو مكسب مهم، لكن التقرير ظل أسير فكرة أن المجتمع المدني له دور مكمل للدولة أو معوض لها وغاب عن معظمه أن المجتمع المدني موازن ومراقب للدولة.
قائمة عيوب تقرير التنمية البشرية طويلة، لكنني لا أوافق على ما قاله الدكتور نادر فرجاني بالمصري اليوم بأن التقرير مجرد وثيقة دعائية، لأن هذا التقرير يظل يحتوي على وجبة من المعلومات عن بعض جوانب حياة المصريين لا غنى عنها للباحثين والصحفيين والسياسيين. يكفيني على سبيل المثال أن التقرير قال لي أن 2% فقط من مواطنينا الفلاحين في أسيوط يتمتعوا بالصرف الصحي بينما 98% من القاهريين ينعمون بذلك. يكفيني أن التقرير قال لي أن نسبة الفقراء في أسيوط تبلغ 13 ضعف نسبتها في القاهرة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *