الكنيسة.. بأي معنى هي دولة داخل الدولة؟ وما الحل؟

ليس هناك من شك في أن الجدل العام في مصر – مع كل ما يشوبه أحياناً من رداءة وعصبية وجهل – قد اكتسب بعض النضج إذا ما قارناه اليوم بما كان عليه قبل عشر أو عشرين سنة. قد يتذكر من هم أكبر من الثلاثين أو الخمسة وثلاثين عاماً، ممن خبروا مصر في التسعينيات، المقولة الكاسحة أن مشكلة مصر تكمن في دولتها الكبيرة والطاغية والساحقة للمجتمع. قد يتذكر البعض الهجوم الفكري الذي شنته بعض التيارات الليبرالية لتقليص حجم ودور الدولة. وربما يعرف البعض أن بعض الكتابات الأكاديمية كانت ترى مشكلة مصر بمنظور “دولة قوية ومجتمع ضعيف”. اليوم بات الرؤية أكثر نضجاً وأصبح الكثيرون يعتقدون أن تلك صياغة مغلوطة لمشكلة الدولة في مصر. فالأزمة في مصر مزدوجة.. أزمة دولة ضعيفة ومجتمع مدني ضعيف. اليوم يدرك الكثيرون أننا نعاني من ضعف وتردي مؤسسات الدولة كما نعاني من ضعف النقابات والجمعيات والحركات والاجتماعية، وأن المدخل الصحيح لحل مشاكل مصر هو تنمية قدرات الدولة (دولة القانون بالطبع) من خلال بناء مؤسسات وحركات في المجتمع قادرة على إصلاح الدولة وعلى إخضاعها للشعب المصري.

هذا التوافق العام على الفكرة الصحيحة القائلة بأن دور الدولة في مصر غائب في كثير من الأحيان، وأن غياب هذا الدور فتح الباب لنمو “إقطاعيات وممالك” مستقلة تفرض قانونها الخاص، تلقفتها بعض القوى المتعصبة لكي تغلف بها مواقفها الطائفية، ولكن تعطي لهذه المواقف شرعية الدفاع عن الدولة في مقابل الفوضى. هكذا أفهم مقولة أن الكنيسة باتت دولة داخل الدولة التي يرددها البعض. وهي مقولة فيها بعض الصحة لكن بعض من يطرحها يدافع بها عن الباطل. فالكنيسة ليست دولة داخل الدولة بمعنى أنها تعد العدة لكي يكون لها قوات مسلحة تنافس بها الدولة. فمقولة أن الكنيسة بها مخازن سلاح مقولة طائفية قديمة أخطأ المثقفون والسياسيون بتجاهلها حتى خرجت من إطار الغرف المغلقة والانترنت إلى شاشات قناة الجزيرة. والإدعاء بأن الكنيسة تريد قيام دولة قبطية مستقلة في الصعيد هو إدعاء تافه لا يفتقد فقط لأي دليل ولكنه أيضا إدعاء عبثي لن يصدقه إلا جاهل أو مجنون يعتقد أن المسيحيين في القاهرة والإسكندرية والدلتا ومنطقة القناة سيرتضون بالهجرة إلى أسيوط لكي يقيموا هناك دولة مستقلة.

المعنى الصحيح والأهم لمقولة “الكنيسة دولة داخل الدولة” هو حقيقة أن قطاع مهم من المسيحيين المصريين أصبح تابعاً تبعية سياسية للكنيسة، وأن البعض الأخر يمارس معظم حياته الاجتماعية والثقافية داخل أسوار الكنيسة بمعزل عن المجتمع، وأن البابا شنودة الثالث يرتضيه الكثير من المسيحيين الأرثوذكس باعتباره زعيمهم السياسي وليس فقط الديني. أذكر أني ذهبت إلى الكاتدرائية المرقصية بالعباسية سنة 2000 بصحبة صديق صحفي فرنسي يعمل في أحد التلفزيونات هناك لكي أساعده في ترجمة حواراته مع المسيحيين الحاضرين لعظة الأربعاء التي يلقيها البابا في الكاتدرائية. وهالني ما رأيت.. البابا ينتهي من عظته في الكنيسة وينتقل إلى مقره الذي يبعد حوالي 30 متر في سيارة مرسيدس سوداء نوافذها مغطاة بستائر، انطلقت بسرعة كبيرة، وورائها الكثير من الغلابة المسيحيين الذين يحاولون لمس العربة لأخذ البركة. ساعتها قلت لنفسي.. هذا ليس أداء قائد ديني، وإنما قائد سياسي على الطريقة المصرية. وحين أثرت موضوع العربة المرسيدس السوداء الفارهة مع أحد المسيحيين الحاضرين على اعتبار أن المسيح نفسه دخل أورشليم على ظهر جحش، أي أقل من حمار. والجحش بمعايير اليوم يساوي على أقصى تقدير عربة فيات 128، قال لي.. هو البابا أقل من وزير؟ هنا أدركت فداحة المصيبة التي لحقت بالوضع الطائفي في البلاد. فالبابا هنا شخصية سياسية تقارن بالوزراء والسياسيين.

السؤال المهم هنا للمدافعين عن الدولة ضد الكنيسة: إذا كانت الكنيسة تحولت إلى دولة داخل الدولة فمن هو المسئول عن ذلك؟ لو سلمنا أن البابا شنودة لديه من الطموح لكي يصبح زعيماً سياسياً لطائفته فمن سمح له بذلك؟ ومن دفع المسيحيين دفعاً لكي يصبحوا أتباعاً في السياسة لزعيم ديني؟ الإجابة بسيطة وخرجت من فم الرئيس الراحل أنور السادات. فعندما يظهر أكبر رأس في الدولة في عام 1980 لكي يضرب بيده على المنبر قائلاً بعصبية “أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة”، ما هي الرسالة التي يبعث بها لغير المسلم؟ الحقيقة يا أخوة أن العامل الأساسي وراء قيام “دولة الكنيسة في مصر” هو الطابع الطائفي المتنامي للدولة المصرية، والذي لن يخفف منه كثيراً أن الطائفة التي تدعي الدولة المصرية أنها تمثلها تشكل حوالي 90% من الشعب المصري أو حتى 99%. فالمسألة هنا ليست بالأغلبية والأقلية. الدولة ملكية عامة لكل المصريين، ولابد أن يجد كل مصري له مكاناً فيها. الموضوع في الحقيقة قديم، وقد أثير أثناء ثورة الاستقلال عام 1919 وأجيب عليه بشعار “الدين لله والوطن للجميع” الذي توافقت عليه الحركة الوطنية. المشكلة نشأت حين لم يترجم دستور 1923 هذا التوافق الوطني وحين أصر البعض على وضع ذكر ديانة رسمية للدولة. والسؤال هو كيف يكون الوطن للجميع بينما المؤسسة الأهم القائمة على هذا الوطن ليست للجميع؟ والمشكلة تفاقمت حين ضعفت الأطراف التي صاغت التوافق على التعاقد الوطني بأن الدين لله والوطن للجميع، وصعدت قوى رفضت هذا الشعار بالكامل.

هذا هو رأيي بصراحة في أسباب قيام “مملكة الكنيسة” التي يتبعها الكثير من المسيحيين اليوم بشكل سياسي. فمن يهمه حقاً تفكيك هذه المملكة, ومن يريد حقاً ألا تصبح الكنيسة دولة داخل الدولة, عليه أن يعمل على أن تكون الدولة المصرية دولة لكل مواطنيها حقاً. هذا هو الحل. بدون ذلك ستظل المسألة ليست صراع حول بزوغ الكنيسة كدولة داخل الدولة ولكن على حدود قوتها، بين بعض القيادات المسيحية التي تريدها دولة قوية داخل الدولة، وبين قيادات طائفية مسلمة تريدها دولة ضعيفة داخل دولة مسلمة أكبر وأقوى.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *