من الجاني في جرائم التحرش الجنسي بوسط البلد؟

جرت العادة في مصر على إلقاء المسئولية على الضحية في حالة التحرش الجنسي. فإذا اعتدى شباب هائج على الفتايات بالقول أو باللمس، فالحكمة الشائعة شعبياً تكون أن الفتايات لا يراعين في ملبسهن حالة الكبت الجنسي التي يعاني منها المراهقون. وكما قال مفتي أستراليا المصري الأصل، عندما تترك قطعة لحم بدون أن تغطيها، لا تلوم القطة إذا جاءت وأكلت اللحم. كان المفتي يشبه الشباب بالقطط الجائعة، ويشبه النساء بقطع اللحم. وهي تشبيهات يستحق عليها المفتي لقب عدو المسلمين الأول في أستراليا، وقد أثارت بالفعل ردود أفعال غاضبة من جانب بعض المسلمين هناك، لأن مثل هذه التصريحات تسء إلى سمعتهم بشكل بالغ.

إذن النظرية الشائعة تقول أن غياب الحشمة والعفة لدى البنات هي السبب الأساسي وراء التحرش الجنسي بهم. لقد جاءت ثورة السعار الجنسي التي حدثت بوسط البلد في أول أيام عيد الفطر لكي تسقط هذه النظرية. فلمس المناطق الحساسة، وتقطيع هدوم البنات الذي قام به مئات من الشباب الجائع بشكل جماعي وشبه منظم لم يفرق بين “اللحم” العاري و”اللحم” المغطى بعناية عند المنقبات. فأصل المشكلة هو النظر للمرأة كعقطعة من اللحم، البعض يطالب بتغطيتها من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين، والبعض الأخر يريد أن ينتزع الغطاء تماماً بالقوة أو بالحيلة حتى يفترس هذا اللحم.

ما الجديد في أحداث سعار الجنس التي حدثت بوسط البلد في أول أيام عيد الفطر الماضي؟ أليس التحرش الجنسي شائع في مصر والبلاد العربية لدرجة الفضيحة؟ ألسنا نرى ذلك ونلمسه، وإن كنا نتحاشى الكلام عنه من منطلق “إذا بليتم فاستتروا”؟ هل يظن عاقل أن هؤلاء الحثالة قد دخلوا إلى عالم التحرش فقط في هذا اليوم المشئوم؟ كلا، لابد أن ورائهم سنوات طويلة من الخبرة في التحرش في المواصلات العامة والشوارع والموالد، وكل أماكن التجمعات. ما أمسعه من أفواه بعض الصديقات من الخواجات يشيب له شعر الوليد في بطن أمه. فنساء الخواجات لهن نصيب وافر من التحرش باعتبارهن قدموا إلى مصر للاستمتاع بفحولة المصريين التي لا تدانيها فحولة في العالم! وكما قالت المسرحية الشهيرة للفنان “الملتزم جداً” محمد صبحي على لسان ممثلة خواجاية “egyptian هيبوسني”. فهنيئاً لها ببوسة الايجيبشين.

التحرش الجنسي عندنا واصل لدرجة الفضيحة حتى أن أشهر دليل سياحي عن مصر lonely planate فيه قسم خاص للنساء يقدم فيه بعض النصائح المفيدة لهن، مثل أن مصر بلد محافظ يجب مراعاة عدم ارتداء الملابس الخفيفة فيه، وهو الأمر المعروف. لكن الطريف/المبكي أن الدليل السياحي يقدم لنساء الخواجات بعض العبارات العربية التي قد تسعفهن في إبعاد الذئاب الجائعة في حالة التحرش الجنسي مثل “ehterem nafsak” “shiil idak” يعني “احترم نفسك” و”شيل إيدك”. هذه هي أهم العبارات العربية التي يجب على النساء الأجانب أن تحفظها عن ظهر قلب قبل الوصول إلى مطار القاهرة. يا للعار. ولماذا لا نعمم القاعدة، وتصبح عبارة “شيل إيدك يا حيوان” هي أول ما تتعلمه الأطفال من الاناث، بدلاً من كلمة بابا وماما.

التحرش الجنسي في مصر له تاريخ طويل، لكن ما حدث في وسط البلد في أول أيام العيد يحتوى على الجديد. الجديد أن التحرش اتخذ شكلاً سياسياً! السياسة في أحد تعريفاتها (للفيلسوفة حنا أرنت) لا تقتصر على النشاطات الهادفة للوصول للسلطة، ولكنها أيضاً الممارسات التي تهدف للتأثير على المجال العام. والمجال العام هو المساحة المشتركة بيننا، هو الشارع، المواصلات العامة، المؤسسات العامة، الشواطيء، الخ. فمن ينظم حملة ضد إلقاء القاذورات في الشارع هو يمارس السياسة، ومن يضع ملصقات تحض النساء على ارتداء زي معين خارج المنزل هو يمارس السياسة، وهكذا.
التحرش الجنسي الكلاسيكي يتخذ من المجال العام مسرحه الأساسي، خاصة في الشارع والمواصلات العامة، ولكنه يظل ذو طابع فردي، أي يقوم به أفراد، وهو يتم غالباً في حالة من التكتم. وما رأيته بعيني في أحد حوادث التحرش الفجة منذ سنوات أن الفتاة أحست بالذعر وحاولت الفرار بدون إثارة فضيحة، لأنها في النهاية ملامة على التحرش بها. الجديد إذن في ثورة جياع وسط البلد الأخيرة أنها اعتمدت العلنية منهجهاً للتحرش. فلم يكن هناك أي جهد مبذول لإخفاء التحرش، ولكن على العكس، المطلوب كان ارتكابه على رؤؤس الأشهاد وفي ظل طقوس احتفالية مجنونة تهلل لافتراس الضحية. ما حدث لم يكن تحرشاً جماعياً بالنساء، بقدر ما كان مظاهرة لتأييد وفرض التحرش على المجتمع. الرسالة واضحة: “سنفترس النساء كما نشتهي وطظ في التخين”. هؤلاء الحثالة كانوا يعلنون بشكل لا لبس فيه أنهم يفرضون قوانينهم على المجال العام. وهو فعل سياسي بامتياز. المجال العام في مصر هو مركز الصراع السياسي. فسياسة التقاتل حول مقعد رئيس الجمهورية لا تستهوى إلا بضعة أفراد، والبقية تكتفي بالمشاهدة والنميمة حول عملية التوريث.
ولا عجب في أن يكون المجال العام هو مركز الصراع السياسي في مصر. فالدولة المفترض أن تضبط هذا المجال العام في حالة تحلل، بحيث أن القانون السائد الآن هو قانون الغابة. فمن يستطيع أن يحتل الرصيف يحتله، ومن يستطيع أن يقتطع من الشارع مساحة يقتطعها، ومن يستطيع أن يستولي على جزء من الدولة ويسخره لحسابه الخاص له ذلك أيضاً. لهذا فإن خروج الشباب الجائع لفرض قانونهم على المجال العام كان فعلاً سياسياً بالرغم من أنهم لم يرفعوا إلا شعارات جنسية.
أعتقد أن الأحداث المروعة بوسط البلد هي مؤشر على زيادة تسييس المجتمع المصري، وهي قضية تحتاج لتفصيل في فرصة أخرى. ما حدث كان حركة احتجاجية عنيفة. صحيح أنها بئس السياسة، ولكنها في النهاية سياسة. فكل مجتمع ينضح بما فيه. وكما أن المجتمع المصري ينضح الآن ببعض الحساسيات المرهفة التي تتوق للحرية وللتقدم ولاحترام الإنسان بغض النظر عن جنسه وديانته وأصله الاجتماعي، وتحاول أن تفرض ذلك في المجال العام، هناك على الجانب الأخر حساسيات أخرى غارقة في الجهل والتخلف والهمجية، وتحاول هي الأخرى أن تسيد منهجها في الحياة على الشارع المصري. غطاء البلوعة انكشف، ويجب أن نتوقع خروج روائح كريهة بدون إضاعة الوقت في إدعاء الذهول والصدمة، لأن الغطاء لم يمنع عنا أبداً رائحة المجاري التي تزكم الأنوف. المطلوب الآن ليس إحكام إغلاق الغطاء مرة أخرى، لأنه سينفجر في وجوهنا. المطلوب هو كشف الغطاء بالكامل والتعامل مع مشكلة المجاري من جذورها. والتعامل مع الجذور يتطلب البحث عما وراء الجناة المباشرين. وأنا أتهم هنا طرفين أساسيين:

المتهم الأول: مدينة القاهرة
المتهم هو مدينة القاهرة بتناقضاتها الفجة، التي يتجاور فيها الغنى الفاحش مع الفقر المدقع، كما تتجاور فيها مساحات الاختلاط بين الجنسين مع مساحات الفصل التعسفي بينها. فالعنف الذي قام به شباب الكبت كان موجهاً ضد الملاك، ملاك الأشياء، والأشياء بالنسبة لهؤلاء البؤساء تضم قائمة طويلة على رأسها النساء. هذا الجدار شبه العنصري – المشيد بين القاهرة الغنية، قاهرة المعز من ناحية وقاهرة الذل والحرمان من ناحية أخرى – يخلق ذئاب وتعساء على جانبي السور. أحدهما أكثر همجية من الأخر.. ربما.. لأن قائمة حرمانه أطول. لكن الحرمان يشمل الجميع: الحرمان من الأشياء في حالة غيابها، والحرمان من الاستمتاع بالأشياء في حالة وفرتها، سواء لعذاب الضمير من طابور الجوعى الذي يحدق في كل من يأكل لقمة، أو للذعر من “ثورة الرعاع” التي ستنتزع اللقمة وستأكلها مغموسة في التراب، إذا اقتضى الأمر.
القاهرة مدينة بضعة جزر غنية محاطة بمحيط هائل من الفقر. أنظروا إليها من أي سطح مرتفع، ولن تحتاجوا إلى أية إحصائيات عن سوء توزيع الدخل في هذه المدينة التعيسة. ما حدث في وسط البلد لم يكن احتفالية بالجنس، ولكن احتفالية بالعنف. ضد من؟ ضد ضحايا من “الضعفاء” (أو بالأحرى المحكوم عليهم بالضعف)؟ نعم وبكل تأكيد .. لكن يهيأ لي أن الأمر يتضمن عنفاً ضد الأقوى من هؤلاء النساء، ضد ملاكهن، أقصد الرجال الأقوياء.
بالعربي أنا أتهم تجاور الفقر والحرمان مع الغنى والشبع بالمشاركة في أحداث وسط البلد. وهذا الاتهام يستحق التحقيق طالما أن الشباب الذي ارتكب الجريمة كان قادماً من الأحياء الفقيرة، وأنه اتخذ منطقة غنية نسبياً مسرحاً للجريمة، وطالما أن الثقافة المنحطة السائدة تنظر للنساء كأصول يستحوذ على معظمها وأفضلها الأغنياء والأقوياء، لذلك فهي تصبح هدفاً لعنف الفقراء في حالة استفحال الحقد والكبت
.
المتهم الثاني: الاختلاط المحدود 
الشباب الذي خرج لانتهاك أعراض النساء، خرج للاحتفال بالعيد في مجموعات صبيان. لم يشارك في الأحداث من كان يحتفل بالعيد مع النسوة، من الزوجات أو من الصديقات من الأقارب. من قاموا بالتحرش لهم بالتأكيد أمهات وأخوات، ولكن بالتأكيد ليس لهم زوجات أو صديقات أو حبيبات. التحرش الجنسي لا ينبع من الاختلاط بين الجنسين ولكن من الفصل بينهما، لأن الاختلاط بين الجنسين يهذبهما معاً، والفصل بينهما يضع أسواراً من الغموض والخوف بين المعسكرين مما يخلق صراعاً محتدماً في صمت أحياناً وفي انفجارات في أحيان أخرى، كان أخرها أحداث وسط البلد. دليلنا على ذلك أن المجتمعات التي يزيد فيها الفصل بين الجنسين تزيد فيها معدلات التحرش الجنسي. بالتأكيد الاختلاط يوفر التربة “للمحظور” الاجتماعي أي علاقات الحب قبل الزواج. ولكن إذا كان الاختيار بين قبول التحرش الجنسي وقبول علاقات الحب، فأنا أصوت بلا تردد لصالح الحب. ليس هناك مجتمع صحيح بدون اختلاط بين الجنسين. ربما لن نختلف كثيراً على أنه من بين المجتمعات التي تحكمها النظم الأصولية يظهر المجتمع الإيراني باعتباره الأكثر تطوراً. فلا السعودية ولا باكستان ولا أفغانستان أنتجت عُشر ما أنتجته السينما الإيرانية. وإيران هي من أكثر تلك المجتمعات توفراً لمساحات الاختلاط بين الجنسين. قرأت من قبل دراسة مثيرة عن تأثير إنشاء العديد من الحدائق العامة في طهران خلال السنوات الأخيرة على سعادة ورفاه سكان طهران. الدراسة تقول أن تلك الحدائق خلقت مساحات من الاستمتاع بالطبيعة كما للاستمتاع بحياة اجتماعية للأسر، أو للشباب الذي لم يؤسس أسراً بعد. وكان من ضمن الأشياء التي خلقتها الحدائق العامة زيادة مساحات الاختلاط. أعتقد أنه في الوقت الذي تزيد فيه في إيران مساحات الاختلاط، تقل هذه المساحات في مصر بالنسبة لفئات واسعة من السكان، بل أن بعض المساحات الاختلاط مثل الجامعات، تم فرض الفصل بين الجنسين في مواقع كثيرة منها. الحلول المحافظة لن تؤدي إلا إلى التستر على الظاهرة أو في أحسن الأحوال كبتها، في حين أن أسباب الظاهرة تتطور على قدم وساق.

أي أن المجرمين المباشرين من الشباب هم في نفس الوقت ضحايا بيئة صعبة وفاسدة ولدوا وشبوا فيها. ولكن ما الجديد في ذلك؟ أليس كل المجرمين ضحايا بيئتهم؟ هل هناك طفل يولد بفيروس الأجرام؟ إن إدراكنا أن المنفذ الفعلي للجريمة قد تم تحريضه من قبل متهمين أخرين لن يحول دون مطالبتنا بمعاقبة المنفذ الفعلي، لأن عياره قد فلت، ولا سبيل لإصلاحه بالموعظة الحسنة.

إن البحث عن جذورمشكلة التحرش الجنسي لا يجب أن يوقف التفكير في التعامل المباشر مع أعراضها التي استفحلت وتريد أن تفرض ممارساتها على المجال العام. والتعامل المباشر مع المشكلة يتطلب يتطلب العديد من الأشياء:
1) تغليظ العقوبات على التحرش الجنسي، والضغط على مؤسسات الدولة لكي تمارس دورها في ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم.
2) تنبيه المجتمع لانتشار هذه الظاهرة، ومحاصرة من ينكر وجودها (وهم كثر) بالدلائل والبراهين التي تثبت استفحالها.
3) عدم التستر على أحداث التحرش ومواجهة من يقوم بها بكل قوة، وتشجيع البنات من ضحايا التحرش على كشف ما تعرضوا له، على أساس أن في كشفهن للجرائم حماية مستقبلية لهن ولبقية بنات جنسهن.
4) رفض ونقد أية إداعاءات تنطلق من المعسكر المحافظ تلقي باللائمة على البنات عندما يحدث التحرش، ورفض أية حلول مطروحة تريد أن تواجه الظاهرة بمنع تواجد النساء في المجال العام. أولاً لأن المجال العام ملك لكل المصريين، ثانياً لأن غياب معظم النساء من المجال العام لن يقضي على الظاهرة ولكنه سيركز التحرش فقط على الأقلية من النساء التي تستصر على عدم الانسحاب.
5) التأكيد على بديهية أن ارتداء المرأة لملابس خفيفة أو حتى مثيرة بالنسبة لبعض الرجال، ليست دعوة لكي يتحرش بها المكبوتين، فمن حق الأنثى أن تعتز بأنوثتها، كما من حق الرجل أن يعتز برجولته فيطلق الشارب أو اللحية.

المهم في كل الأحوال هو فرض احترام النساء على المجتمع ككائنات لا يمكن اختزالهن في الجسد. هذا هو الحل الوحيد. هذا أهم ما أثبتته أحداث وسط البلد، فهي بينت بالدليل العملي، أن كل الجهود المبذولة لتغطية قطع “اللحم” عن عيون وأيادي المتلصصين، ضاعت سدى. فدعونا من هذا الهراء ولنبدأ في مواجهة أصل المشكلة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *