المصريون وحبهم المهزوم لمصر

مصر مش أمي، دي مرات أبويا. هذا عنوان كتاب الاستاذ أسامة غريب الذي يحقق نجاحاً توزيعياً كبيراً هذه الأيام. العنوان بالطبع جذاب، لأنه متمرد. والتمرد هو أحد الفضائل التي دخلت مؤخراً في القاموس الأخلاقي للمصريين. والحقيقة أنه لا تقدم إلا بالهدم والبناء. ولا بناء بدون هدم سابق عليه أو مصاحب له. صحيح أن بعض أشكال التمرد الحالية تتصف بالشطط. لكنها مسألة وقت، ولن يمضي وقتاً طويلاً حتى يصحح المجتمع مساره بالتجربة والخطأ. المُراد في الكتاب هو هجاء مصر عن طريق استدعاء صورة زوجة الأب كما عرضتها السينما المصرية.. قاسية، متوحشة، سادية. وهي نفس صورة زوج الأم. هذا بالرغم أننا نعاين بأنفسنا في الواقع زوجات أب وأزواج أم فياضين بالحنان العطاء على غير أبنائهم.

والحقيقة أن علاقات الدم في مصر على أهميتها لا تلعب الدور المحوري الذي تلعبه هذه العلاقات في المجتمعات القبلية. فمصر في النهاية هي حضارة فلاحين. والفلاح انتماءه الأساسي ليس لقبيلة ولكن للأرض التي يفلحها فتعطي له الخير. حسناً فعل الكاتب العظيم أسامة أنور عكاشة في مسلسل ليالي الحلمية حينما أعطي دوراً محورياً لزوجة أب حنونة وطيبة (وصيفة) قامت بتجسيدة الفنانة الجميلة انعام سالوسة. ولكن يبدو أن صورة زوجة الأب المجرمة ما زالت هي الصورة السائدة في ذهن مؤلف الكتاب. فليكن. على أن زوجة الأب في كتاب الاستاذ غريب ليست فقط قاسية وانما هي أيضاً راقصة! فغلاف الكتاب تتصدره صورة لراقصة بلدي مطبوع على فستانها ختم النسر. يعني باختصار مصر ليست أمنا، وانما زوجة أبينا الراقصة. وما أدراك من هي الراقصة في مصر؟ هي عدو الشعب رقم 1، بالرغم أن معظم الشعب يدعوها لإحياء أفراحه. ولكن ماذا تقول عن مرض الفصام والازدواجية؟

كاتب هذه السطور من باحثي العلوم الاجتماعية الذين يعتقدون في أن الرموز لابد وأن تؤخذ بجدية، خاصة في مصر. كل هذه الصور والملصقات واللحى والصلبان والعلامات ليست من فراغ. الرموز في مصر لها حضور طاغي في المجال العام. ولن يكون هناك تغيير حقيقي إلا بثورة ثقافية لا تمس فقط المعتقدات والأفكار وانما أيضاً الرموز والصور والتشبيهات. المرحلة التي نعيشها الآن هي فترة نهاية رموز لم تصمد أمام واقع الحياة. تشبيه مصر بالأم يسقط. والحقيقة أن التشبيه لم يكن بليغاً باديء ذي بدء. فالأم ترمز في الثقافة الشعبية للعطاء غير المحدود. مصر الأم هي مصر المعطائة بلا مقابل. وهنا المشكلة. فمنذ الاف السنين انسحبت الغابات من مصر وتمددت فيها الصحراء، وبالتالي لم يعد من الممكن الحديث عن مصر الأم. فأرض مصر أما صحراوية قاحلة لا تنبت ولا تعطي ماء إلا بالعرق والجهد، أو أرض شديدة الخصوبة لكنها لا تخضَر إلا بالعرق. أرض مصر ليست معطائة مجاناً كما هو الحال بالنسبة لأراضي شعوب أخرى فيها موارد طبيعية وفيرة.. فيها غذاء نباتي مجاني تطرحه أشجار الغابات، أو فيها حيوانات تهيم على وجهها انتظاراً لصياد ماهر. الأرض الخضراء في مصر اخضرت بالعمل، والحيوان الذي نأكله تعبنا في اطعامه ورعايته. حتى الماء نفسه لا ينزل من السماء ولكن يحمله نهر يحتاج إلي جهد جماعي شاق لترويضه. يعني مصر في الأصل ليست بلداً ريعياً يعيش على “منح” الطبيعة. مصر ليست هبه النيل وانما هبة سكان النيل. مثل هذا البلد الذي لا يعطي شيئاً إلا إذا أعطيته الكثير، أكثر مما يعطي أي شعب لبلده، لا يمكن أن نرمز له أبداً بالأم. لأن الأم تعطي بلا حدود قبل أن تأخذ أي شيء.

لكننا إذا نحينا رمز الأم جانباً وتأملنا الرمز الجديد الذي يطرحه الاستاذ غريب لزوجة الأب والذي يبدو أنه حاز على بعض القبول لطرافته وإذا قبلنا أن مصر هي زوجة أبونا. فالسؤال المهم هنا هو.. من هو أبانا الذي ابتلانا بهذه الزوجة القاسية اللعوب؟ الأب هنا هو الجاني الحقيقي، لأنه أتى بهذه الزوجة. هل الأب هنا هو نظام الحكم؟ بالطبع لا، لأن نظام الحكم ليس أبونا بل هو ابن لهذا المجتمع، أي هو نتاج لعلاقات القوة فيه. فإذا كان ولابد أن تظل مصر ست فلتكن ابنة. فالأبنة تأخذ الكثير قبل أن تصل إلى مرحلة العطاء، والابنة تطرح بقدر ما يعطيها الاباء من رعاية. إذن مصر ليست أمي ولكنها بنتي، وهي ستعطينا بقدر ما نعطيها أولاً. لكن هذا التشبيه لا يحل المعضلة. فالسؤال الأهم هنا هو لماذا يجب أن تكون مصر دائما “واحدة ست”؟ الإجابة بسيطة. لكي تحتاج إلى رجل ليحميها، سواء كان زعيم أو نظام حكم أو حركة سياسية. تشبيه مصر بالسيدة يعكس بلا شك حالة ذكورية مستعصية لدى النخبة المصرية، وهي حالة ذات سوابق لدى شعوب أخرى. فلسنتمع إلى ما يقوله أدولف هتلر الديكتاتور النازي الشهير. هو يقول أن الشعب شأنه شأن المرأة، لا يمتلك الكثير من الملكات العقلية. ومن هنا قيادته تتطلب من الزعيم أن يعامله معاملة الرجل للمرأة. لابد للزعيم أن يخضع الشعب بمزيج من العواطف الجياشة والعنف غير المحدود. كلنا نعلم ماذا جرى لألمانيا بسبب الفلسفة الكامنة وراء ذلك التشبيه. لا مشكلة في تشبيه مصر بواحدة ست إذا كان النمط الثقافي السائد يضع الست على قدم المساواة مع الرجل. المشكلة تظهر عندما تصبح مصر سيدة في ذهنية تيارات ذكورية لا تحل مشكلتها مع المرأة حتى الآن. لأن مصر عندما تصبح إمرأة هنا فهي تحمل كل الصفات السلبية التي يلصقها المجتمع بالمرأة. وهنا يكون تشبيه مصر بواحدة ست هو دليل على مشروع استبدادي ينظر ظهور الرجل الفحل الخارق، خاصة عندما تكون مصر هي امرأة “فلتانة” كما هو حال صورة مصر على غلاف كتاب الاستاذ غريب. لأن المرأة “الفلتانة” لا تحتاج إلا لرجل حازم لكي يخضعها. وهذا هو جوهر الاستبداد السياسي.

بالتأكيد مصر تعاني من أزمة في الرموز. والدليل على ذلك أن الأغنية الوطنية انقرضت أو كادت. فكتاب الأغنية عاجزون عن التغني لمصر. وبينما يتوقف المديح للبلد، يزداد الهجاء لها. وهو بالشيء القاسي جداً على الذات، لأن من يهجو مصر هو يهجو نفسه. فمصر ليست إلا أرضاً وشعب وحكومة. فإذا كانت سيئة وقبيحة فلن يتحمل مسئولية ذلك إلا الحكومة والشعب. والمصريون كلهم إما في الشعب أو في الحكومة. لكن انتشار هجاء مصر برغم قسوته يعطي الأمل، لأنه تعبير عن كراهية، والكراهية هنا ما هي إلا حب محبط ومهزوم. ما زال هناك حب جارف لمصر في نفوس المصريين الذين يهجونها. المعضلة كلها هي تحويل هذا الحب المهزوم إلى حب ناجح.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *