بين مصر وإسرائيل، بين دولة الأرض ودولة الطائفة

ببطء ولكن بثبات تخرج السياسة المصرية من مرحلة المراهقة إلى النضج. كانت مجزرة غزة فرصة لاختبار المدى الذي وصل إليه نضج هذه السياسة. النضج يبدأ بإسقاط الأوهام ثم بتجاوز الاحباط الناتج عن سقوط الأوهام. المراهقة في السياسة هي الاعتقاد بأن السياسة هي ترجمة لمشروع أخلاقي. والنضج في بدايته هو إدراك أن السياسة ليست كذلك وإنما هي صراعاً على المصالح. البعض حين يصل إلى هذه الحقيقة يكفر بالسياسة والسياسيين باعتبارهم عديمي الأخلاق ولكن البعض الأخر ينجح في تجاوز المحنة لكي يدرك أن السياسة القائمة على الأخلاق وفقط هي في الحقيقة سياسة غير أخلاقية لأنها لا تراعي مصالح الناس. بعبارة أخرى السياسة الأخلاقية تستمد أخلاقيتها ليس من عقيدة أو منظومة أخلاقية وانما من المصالح التي تدافع عنها. السياسة الأخلاقية هي التي تدافع عن مصالح جماعية مشروعة.

نضج السياسة المصرية الذي أتحدث عنه هو بداية خروج تلك السياسة من الصراع العبثي بين فلسطين أولاً ومصر أولا،ً بين “طظ في مصر” و”طظ في فلسطين”. في الماضي كان مبارك يقول أن 70% من وقته مخصص للقضية الفلسطينية. وحينما سأله الاستاذ مفيد فوزي بما معناه متى يكون معظم وقته مخصصاً لمصر وليس لفلسطين قال له بما معناه أن كل وقته مخصص لمصر بما فيه السبعين في المائة الفلسطينية. وهذا هو الكلام المفيد الذي باتت السلطة مضطرة للافصاح عنه أكثر فأكثر. المجموعة الحاكمة في الماضي كانت تقول أنها تضحي بمصالح مصر من أجل فلسطين. لذلك كانت هناك معارضة تنازعها على نفس أرضيتها فتتهم هذه الجموعة بالانبطاح لأنها لم تبين كرامة في الدفاع عن الشعب الفلسطيني. وهي التهمة التي باتت السلطة ترد عليها مؤخراً قائلة.. صباح الخير! فيه حاجة اسمها دولة مصر، وفيه حاجة اسمها أمن قومي يا… وهنا لا يسعني إلا أن أقول: أخيراً.. أخيراً أفصحتم عن الحقيقة. هنا نصل إلى ألف باء علم العلاقات الدولية. السياسة الخارجية للدول هي تعبير عن مصالح الدولة أو مصالح المجموعة المسيطرة عليها وهي الترجمة الخارجية لنظام الحكم في الداخل. ومن هنا أكتب هذه المقالة لكي أسأل المجموعة الحاكمة عن أحد الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها في حق الدولة المصرية.

المجموعة الحاكمة المصرية تدير أعرق دولة في المنطقة، دولة تعاقب عليها الحكام المصريين والأجانب، لكنها لم تذب أبداً في أي كيان أخر. مصر نموذج استثنائي في العالم في استقرار حدودها الدولية على مدار 5200 سنة. الدولة المصرية قامت على الأرض ولم تقم على عقيدة أو ديانة أو ثقافة. وإلا كيف تغيرت ديانة بل ولغة الدولة المصرية عدة مرات دون أن تختفي هذه الدولة أو أن تتغير حدودها؟ الدولة المصرية هي دولة أرض، ولا تحتاج للافته دينية لكي تبرر وجودها، لأن شرعيتها مبررة بالفعل بما أنها تدير مصالح جماعة متحدة من السكان تعيش على هذه الأرض. الحكام في مصر هم الذين احتاجوا الدين لزوم السيطرة السياسية على الشعب، لذلك زينوا جداريات الدولة بشعارات دياناتهم. ومن الأخر ليس هناك في الواقع دولة دينية. الدولة هي مجموع المؤسسات العامة التي تملكها جماعة. هي جهاز مثلها مثل السيارة. السيارة ليس لها دين. للسائق أن يضع عليها شعاراته الدينية، ويمكن له أن يركبها إلى الجامع أو الكنيسة. لكن هذا لا يغير من حقيقة السيارة، فهي تظل سيارة، لا دين لها.

في عام 1948 قامت على حدودنا الشرقية دولة طائفية. إسرائيل ليست دولة دينية. معظم مؤسسي دولة إسرائيل والتيار الغالب في الحركة الصهيونية يتعامل مع التوراة باعتباره كتاب فولكلور أو كتاب أمثال “الشعب اليهودي”. وهذه الدولة الطائفية قامت على استدعاء تاريخ دولة إسرائيل القديمة التي أسستها القبيلة العبرانية قبل الميلاد. وكانت الدولة المصرية هي النموذج الملهم لهذه القبيلة. هذه القبيلة خاصمت مصر، لكن ظلت مصر هي القبلة والنموذج. هكذا تؤرخ التوراة بداية تأسيس دولة إسرائيل القديمة بخروج العبرانيين من مصر. ولأن القبيلة لا تمتلك أرضاً ثابة لذلك فهي تحتاج لبناء الدولة على أجساد وعقول أتباعها. لذلك ارتبطت دولة إسرائيل بداينة قبيلتها، ولذلك إسرائيل المعاصرة مرتبطة بديانة طائفتها ارتباطاً لا ينفصم، ولذلك يطالب الصهاينة من العرب اليوم الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل وهو الذي اعترف به معظمهم من زمان، فهم يتحدثون عن اليهود ودولة اليهود وليس عن الصهاينة ودولة إسرائيل! لو ازيلت اليافطة اليهودية من على دولة إسرائيل تكون دولة إسرائيل المعروفة لنا قد سقطت. وذلك ليس حال الدولة المصرية التي لن تسقط لو أزيل من عليها يافطة الدين.

كان من الطبيعي أن يحدث احتكاك أو صراع بين دولة الأرض ودولة الطائفة. فدولة الطائفة اعتبرت نفسها مسئولة عن الطائفة اليهودية في العالم كله ومصر كان بها يهود. الصراع بين الدولة المصرية ودولة إسرائيل هو بالأساس صراع حضاري، صراع نموذج دولة الأرض مع دولة الطائفة. صراع بين دولة درجة أولى ودولة درجة ثانية. فماذا حققت دولة الأرض تحت حكم النظامين الملكي و23 يوليو؟ الأول قرر الحسم العسكري فتعرض لهزيمة عسكرية مشينة, والثاني اندفع بصلافة وغرور نحو استخدام السلاح فتعرض لهزيمة مهينة غير مسبوقة في تاريخ مصر القديم والحديث. انتصار 73 المحدود صحح بعض الأذى. لكن يظل الحساب الختامي لسجل الصراع مع دولة الطائفة يشهد على أن تلك الدولة نجحت في تصدير نموذجها إلى المنطقة. المقارنة بين مصر وإسرائيل تبين الآتي. مصر لديها دولة درجة أولى وإسرائيل لديها دولة درجة ثانية. لكن إسرائيل لديها نظام درجة أولى – أي ديمقراطي – ونحن لدينا نظام درجة ثالثة، أي سلطوي. لذلك تتساوي الرؤوس للأسف بين مصر وإسرائيل.

في أوائل الثمانينيات كان والدي مدرس التاريخ يشرح لي رغبة إسرائيل في “لبننة” المنطقة، أي تحويل دول المنطقة إلى دويلات طائفية على النموذج اللبناني كي لا تشعر إسرائيل بالاغتراب، وكان يقول أن مصر هي العقبة الكؤود في وجه ذلك المشروع. إذا كانت المجموعة الحاكمة في مصر قد كشفت أخيراً عن أنها مصرية، سياساتها الخارجية تدافع عن “الأمن القومي” المصري أولاً وقبل كل شيء. فهل لي أن أسأل لماذا يتراجع النموذج المصري لدولة الأرض في المنطقة؟ لماذا يتقدم المشروع الطائفي في لبنان وسوريا والعراق والسودان، ولماذا أحكم قبضته على غزة، ولماذا امتدت جاذبيته إلى داخل مصر ذاتها حتى أصبح قطاع من المصريين ينظر باعجاب إلى زعماء الطوائف في المنطقة؟ هل لي أن أسأل كيف جرؤت المجموعة الحاكمة على استخدام الورقة الطائفية في صراعها مع إيران؟ ألم يتهم مبارك الشيعة العرب بأن ولائهم لإيران؟ هل لي أن أسأل كيف واتت المجموعة الحاكمة الجرأة لكي تشارك في تحالف اقليمي سني ضد الشيعة تحت زعامة دولة قبيلة أو أسرة سعود. كيف جرأتم على ذلك؟ كيف لنظام يحكم دولة أرض أن ينزل بمستواه ويتصرف بمنطق زعماء الطوائف؟ ما أكبرك يا دولة مصر، وما أصغر المجموعة التي تحكمك.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *