حتى لا تتكرر قصة هيكل مع السادات ومبارك

لا أتذكر مما قاله الأستاذ حسنين هيكل في هذه المحاضرة إلا شيئاً وحيداً خرم أذني وحرت في تفسيره. كان ذلك في بدايات عام 1987 عندما التحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وجاء هيكل لإلقاء محاضرة على أستاذة وطلاب الكلية. كان مدرج 1 ممتلئاً عن أخره بشكل لم أره طوال دراستي في هذه الكلية. تحدث الأستاذ حسنين عن الوضع السياسي في مصر. وجاء وقت الأسئلة فذهب الميكروفون للمرحوم الدكتور أحمد عبد الله الذي سأل هيكل عن غياب الشعب المصري من تحليله ومن تصوراته عن المستقبل؟ يبدو أن الأستاذ حسنين كعادته راهن على تغيير من جانب الرئاسة أو على فكرة تشكيل مجلس استشاري لرئيس الجمهورية التي طرحها أكثر من مرة في عهد مبارك.
أتذكر جيداً الكلمة التي استخدمها هيكل في رده على أحمد عبد الله وفي تبرير وقوفه مع الرئيس مبارك آنذاك. قال أنه واثق أن مبارك لن يخنق “الحراك” في المجتمع المصري. ودارت الأيام، ومضت السنوات وأخيراً أصبحت جريمة نظام مبارك الكبرى – وفقاً لهيكل وتلاميذه – هي إسقاط مصر في حالة من الركود السياسي.
هكذا تبين أن نظام مبارك ليس له أية علاقة بالحراك. لم تكن هذه أول مرة يقف فيها هيكل مع الرئيس الجديد لنظام 23 يوليو. فقد وقف “وقفة رجل” مع الرئيس السادات وسانده ضد خصومه في النظام وأدار الحملة الإعلامية ضدهم وأطلق عليهم زوار الفجر وسمى حملة السادات عليهم ثورة التصحيح. ولكنه ما لبث أن اختلف معه، وانتهى الأمر بنشر هيكل لكتاب “خريف الغضب” بعد مقتل السادات، والذي روى فيه التاريخ الأسود للسادات قبل وصوله للسلطة من أول عقده نقصه من لونه الأسود (تخيلوا!؟) إلى ذهابه في ليلة 23 يوليو إلى السينما وافتعاله مشاجرة هناك من أجل إثبات تواجده بعيداً عن أحداث الإنقلاب. وقد توقع الاستاذ هيكل بالطبع أن يُسأل عن دوافع وقوفه مع رئيس كان يعرف تاريخه غير المشرف، فأستبق السؤال وقال في كتابه أنه راهن على قابلية السادات لإصلاح نفسه! تخيلوا؟ هل سمعتوا عن شخص فاسد أمكن علاجه بجرعات من السلطة؟ وكان كتاب خريف الغضب فيه من المغالطات لدرجة أن الدكتور فؤاد زكريا كلف نفسه بنشر كتاب “كم عمر الغضب، هيكل وأزمة العقل العربي” الذي كشف فيه عن عوار منطق هيكل في التحليل. لم يفلح كتاب زكريا للأسف في القضاء على أسطورة هيكل سواء لأن قلم الأستاذ حسنين كان من الجمال والرشاقة بحيث أدار عقول الكثير من الناس، أو لأن النقد الجذري والحقيقي لهيكل تاه وسط جوقة شتامين هيكل من الساداتيين والمباركيين، أو لأن هيكل كان يمثل نموذجاً للكاتب الذي يلعب دور مستشار وناصح الأمير القادر على الاختلاف معه وهو نموذج أكرم له من نموذج الخادم الذليل للأمير الذي لعبه مئات من الكتاب والصحفيين، أو أو لأن هيكل كان يمتلك من المريدين ومن ذوي السلطة الذين دافعوا عن هيكل ونموذجه بشراسة وأرهبوا معظم نقاده، أو لأن هيكل رغم اختلافه مع خلفاء عبد الناصر فقد ظل على ولائه لنظام يوليو. والنظام بالطبع أبقى وأهم من رئيسه.

لماذا هذا التقليب في المواجع؟ لأن التاريخ يكاد يعيد نفسه إذا لم ننتبه ونستذكر ما حدث في بدايات عهد السادات ومبارك، أي في السنوات الأولى التي تعقب رحيل رئيس ومجيء أخر. في هذه المرحلة يفتح فيها الرئيس بعض النوافذ لكي يجدد شرعية النظام، فتخرج لنا مجموعة من الكتاب والسياسيين لكي يقولوا لنا أن الرئيس الجديد غير القديم، وأنه متفتح ومرن ومن الواجب إعطاءه فرصة. لم أكن إلا صبياً عندما جاء مبارك إلى الحكم، ولكنني أتذكر جيداً كيف أشاع عنه البعض أنه ناصري متخفي وكيف دللوا على ذلك بأنه لم يزر إسرائيل مرة واحدة طوال مشواره كنائب لرئيس الجمهورية. ودارت الأيام وحافظ مبارك على السلام مع إسرائيل كما حافظ على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وتبين أن مرونته في البداية لم تكن إلا لتجديد دماء النظام الهرم.

القراء الأعزاء والأخوة الأفاضل. لا تصدقوهم إذا قالوا لكم أن هناك مرشح جيد لرئاسة هذا النظام الذي نعرفه جيداً. المشكلة ليست في شخص رئيس الجمهورية، المشكلة الكبرى في النظام الذي يختار من بين صفوفه رئيس جديد. والمشكلة فينا نحن.. نحن الذين انطلت علينا الوعود الكاذبة أو نحن الذين عرفنا أنها كاذبة وفشلنا في تنظيم أنفسنا لكي نفرض على الرئيس الجديد تنازلات في بداية عهده، قبل أن يتمكن ويحكم ربط القيود حول أعناقنا. إذا كان البعض يرى من منطلق الواقعية أن القوى الديمقراطية ضعيفة بما لا يسمح لها بأن تفرض رئيس جديد بشكل ديمقراطي فهذا شيء أفهمه. لكن ما لا أفهمه هو إدعاء البعض أن اختيار المجموعة الحاكمة لرئيس ذي خلفية عسكرية سيصلح من أحول البلاد.
هؤلاء وأمثالهم هم من راهنوا على مبارك العسكري بالأمس، ثم جاءوا اليوم ليراهنوا على مبارك جديد عسكري لا نعرفه ولا هم يعرفونه. هؤلاء هم من يتحدثون عن “الركود” و”الحراك” السياسي، وهي مصطلحات غامضة حاولوا أن تجدوا لها تعريفات في قواميس علم السياسة. أخوتي الأعزاء، القضية ليست الخلاص من الركود والاستمتاع بالحراك، وإنما هي الخلاص من الاستبداد والظلم وإحلال الديمقراطية والعدل. وإذا كنا غير قادرين على تحقيق ذلك الآن فلا أقل من أن نعمل له من اليوم، ولا أقل من أن نستعد للأيام القادمة، حين تختار المجموعة الحاكمة رئيسها الجديد والذي سيبحث عن بعض الشرعية في بداية حكمه، فيفتح النوافذ قليلاً كما فعل السادات ومبارك ويحاول استمالة بعض المجموعات والأفراد إليه. حينها يجب أن نكون مستعدين بقائمة مطالب حد أدنى تتفق عليها كل القوى الديمقراطية مهما كانت خلافاتها حول مختلف القضايا، مثل تعديل الدستور لكي لا يبقى الرئيس في الحكم أكثر من فترتين، ومثل وقف التعذيب فوراً، ومثل تطبيق القانون الذي يداس يومياً بالجزم، الخ. بدون تكتلنا حول مطالب محددة لا فصال فيها سيأتي رئيس جديد، وسيأتي حسنين هيكل – إذا كان له عمر- أو تلامذته لكي يقولوا للناس أنه لن يخنق حالة “الحراك” في مصر. وتمضي السنين ويعودوا ليقولوا لنا “معلش.. تبين أن الرئيس ما لوش في الحراك”. يا أخوة التاريخ عادة لا يعيد نفسه، ويا ولينا لو أعاد نفسه. أنتم تعرفون المصير.. في المرة الأولى يكون دراما وفي الثانية يتحول إلى مسخرة. فكفانا مسخرة. شكلنا بقى وحش جداً. تعالوا نفكر سوياً كيف نتجمع حول مطالبنا المشتركة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *