ما الجديد في كوارث مصر حتى يطالبون بتدخل الجيش؟

لنتفق على أن المهمة الأصلية للجيش هي أن يكون متقدماً على حدود مصر الدولية لكي يدافع عنها ضد أي عدوان خارجي. ولنتفق على أن الضرورة القصوى قد تقتضي قبول قيام الجيش بمهمات أخرى مثل إنقاذ البلاد من خطر الحرب الأهلية، أو انفصال أحد الأقاليم عن البلد الأم. فهل سمع أحدنا عن حرب أهلية قادمة؟ وهل نمى إلى علم أحدنا أن هناك أقاليم تنوي الانفصال؟ هل يخطط بعض أهالينا في الاسكندرية أو أسوان للاستقلال عن مصر؟ وإذا كانت الإجابة هي لا فلماذا هذا التحريض للجيش على أن يترك مهمته الأصلية لكي يحسم الصراع السياسي الدائر على قمة السلطة؟ سيقولون لأن مصر تمر بسلسلة من الكوارث الاستثنائية.
لن أجادل في أن البلاد تشهد كوارث متصلة أخرها مآساة الدويقة. ولكن لي أن جادل كثيراً في أن تلك الكوارث استثنائية. هذا البلد نعرفه جيداً، ونعرف أنه بلد لم يسد العدل فيه قط ، بلد لم يعرف قط توزيع عادل لخيرات العمل، بلد لم يشهد قط حرية دينية وفكرية حقيقية، بلد لم يعرف قط تجريد الحاكم من سلاح الدين الذي يلهب به ظهر الغلابة لكي يبنوا له أهرامات أو قصور أو لكي يقبلوا بالظلم والتفاوت الاجتماعي، بلد لم يشهد قط مساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات، بلد لم يعرف قط نظافة في المجال العام إلا في بعض المناطق الراقية، بلد لم يرى قط سيادة للذوق الراقي ولاحترام الجار. بلد لم يعش قط سيادة نظام ديمقراطي يشارك فيه الناس حقيقة في حكم البلاد.
أنا لا أصدق أبداً نظرية المرحلة الذهبية لتاريخ مصر، التي بانقضائها باتت مصر تنحدر إلى الهاوية، أكانت تلك المرحلة الذهبية فرعونية، أو ملكية، ناصرية أو ساداتية. فلنتجادل عمن كان أحسن؟ فاروق أم عبد الناصر؟ عبد الناصر أم السادات؟ السادات أم مبارك؟ لكن ببعض السماحة يمكن الجزم بأن لكل عهد كوارثه. باختصار، وبالعربي كده، الحالة الزفت التي نعيشها اليوم لم نعرف غيرها، وإن اختلف شكل الزفت.. زفت ظلم اجتماعي فادح، أو زفت هزائم عسكرية مروعة أو زفت كبت للحريات وضرب خيرة عقول مصر بالجزمة وعلى القفا، أو زفت فساد طاغي يرعاه نظام الحكم ويشارك فيه معظم أبناء الشعب. فما هو الجديد إذن؟ ومن هو الساذج الذي يظن أن هذا الزفت سينقضي بين لية وضحاها أو بين سنة وأخرى؟ نظرية المنقذ لابد من التعامل معها مثل المخدرات الخطيرة كالهروين. أيا كان المنقذ.. ملاك من السماء، أو زعيم خارق للعادة، أو طليعة عسكرية أو مدنية. هذا البلد لن يتغير إلا بالعمل الشاق لسنوات طويلة وليس بالرهان على معجزة.

من يطالب الجيش بالمزيد من التورط في السياسة لا يعي دروس الماضي القريب. أليس تسييس الجيش هو الذي أدى بنا إلى هزيمة مروعة في مهانتها عام 1967؟ وألم يكن تلطيف هذا التسييس بعد الهزيمة هو أحد العوامل التي سمحت لنا أن نحقق ولأول مرة نصر محدود على إسرائيل؟ الحريص فعلاً على كفائة وجاهزية الجيش لمهام الدفاع الوطني يجب أن يفكر ألف مرة قبل أن يدعو إلى مزيد من تدخل الجيش في السياسة. يقولون أن هناك فراغ سياسي خطير في البلاد. والحقيقة هي نعم، هناك فراغ سياسي فادح. لكن السؤال هو.. ألم تكن إقالة النخبة المدنية السياسية وعسكرة الحياة السياسية منذ الخمسينيات هي أحد أهم العوامل الأساسية التي خلقت هذا الفراغ السياسي؟ فكيف للداء أن يصبح الدواء؟

وإذا كانت مقتضيات الواقعية تحتم قبول حقيقة أن الجيش المصري سوف يكون حاضراً في السياسة الداخلية في السنوات القادمة، أليس من مهمة المثقفين أن يفكروا في كيفية ترشيد هذا الدور لكي يبتعد تدريجياً عن الانخراط في الصراعات الداخلية مثل محاكمة المدنيين، ولكي يميل أكثر فأكثر ناحية رعاية تجربة ديمقراطية تحتوي الجميع ولا تسمح لأحد الأطراف بالانفراد بالسلطة؟

ما علاقة الدعوة لتدخل الجيش التي يطلقها البعض بالتحركات السياسية الايجابية التي حدثت في مصر طوال السنوات الماضية؟ أتذكر جيداً أن المظاهرات التي شاركت فيها كان فيها شعارات كثيرة ترددت على لسان المتظاهرين، منها الصالح ومها الطالح. لكن الشعار الذي صرخت به الحناجر في زئير مدوي و في حشرجة تدمع لها العين كان شعار من كلمة واحدة من أربعة حروف.. حرية. هذه هي الكلمة التي أجمعت عليها القلوب والحناجر. فالحقيقة أن مصر ليست إلا سجن كبير. فبدلاً من أن نتجادل على من هم أفضل السجانين، لنتجادل على كيفية بناء تحالف هدم أسواء السجن. المشكلة أن بين المساجين من لم يؤمن أبداً أن هذا الشعب المنكوب والفقير والمتخلف وقليل الحيلة يمكن أن يصبح حراً، ولأنه يعتقد بشكل راسخ أن هذا الشعب من طينة مختلفة عن كل شعوب العالم وأنه مازوخي محب للقهر وقابل به.

وما علاقة الدعوة لتدخل الجيش بتحركات مئات الالاف المصريين والمصريات الذين أخذوا مصيرهم بأيديهم فخرجوا في أهم موجة نضال اجتماعي منذ السبعينيات لكي يطالبوا بلقمة عيش نظيفة، أو بأجر أعلى أو بظروف عمل أحسن؟ هل نقول لهم اخلوا الشارع لأنه آن للدبابات أن تتقدم؟ وما علاقة هذه الدعوة بوظيفة المثقفين؟ أليس المثقف الحقيقي هو صاحب عقيدة الحرية، أليس هو المكتشف لقدرات الناس الكامنة تحت طبقة السلبية والخضوع، أليس هو الحالم بغد أفضل والمبشر بالتقدم في وجه سياسيين يقولون أنه ليس لنا إلا أن نختار من بين برامجهم البائسة “الواقعية”؟ أليست هذه وظائف المثقف يا مثقفين مصر؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *