كتابة الدستور أهم من التصويت عليه

الديمقراطية والحرية تقوم على الاختيار.. أن تختار ما بين عدة أشخاص لتولي المناصب القيادية ، أو أن تختار ما بين عدة سياسات وتوجهات للدولة. بهذا المعنى الديمقراطية ليست فقط عملية تصويت. فإذا كان التصويت على الاختيار بين أحمد والحاج أحمد مثلاً فلا معنى له من الأصل. وإذا كان هناك اختلاف بين أحمد والحاج أحمد لكنك غير قادر على اكتشاف الاختلافات، فأن هو الاختيار؟

ماذا كانت مساحة الاختيار المتاحة أمام الشعب في الاستفتاء الأخير؟ أجزم أنها كانت محدودة جداً. سأضرب مثلاً بنفسي. لقد سعدت بالتعديل الذي لا يُبقى الرئيس في السلطة إلا مدتين، كما فرحت بتيسير شروط الترشح للرئاسة لكي يستطيع ناس من نوعية البسطويسي والبرادعي وموسى وغيرهم الترشح. كنت أريد التصويت بنعم على التعديلات. المشكلة أن هناك تعديلات أخرى منعت من الترشح كل المصريين الذين تزوجوا من أجانب أو حصلوا على جنسية أجنبية أو حصل أبائهم عليها حتى ولو تخلوا عنها. مشكلتي مع هذا التعديل ليست شخصية، فأنا مصري ابن مصريين صعايدة “أنقياء” ومتزوج من مصرية بنت مصريين “أنقياء” من الدلتا. يعني إذا كانت المسألة بالدم أو ببطاقة الهوية أو بالزواج، أو حتى بلون البشرة، فإن مصريتي “نقية” مائة بالمائة وتجمع بين مملكتي مصر القديمة العليا والدنيا!

مشكلتي مع هذه التعديلات أنها تفتح الباب لتمييز صارخ ضد بعض المصريين، وأن هذا التمييز تم تمريره محشوراً وسط تعديلات أخرى. ناهيك عن أن هذا التعديل نابع من ذهنية تنتمي للعهد القديم تعتقد أنها وصية على الشعب المصري العظيم الذي صنع الثورة. فتشديد الشروط هنا يفترض أن هناك ناس من مزدوجي الجنسية قادرون على الفوز بثقة الشعب. لذلك تدخل المُشرع لكي “يحمي” الشعب من نفسه ويعفيه من “خطأ” اختيار شخص مشكوك في ولائه لمصر بالكامل.

لقد أصابني التعديل بالصدمة الشديدة، خاصة أن المستشار البشري رئيس لجنة تعديل الدستور وعضوين آخرين في الجنة ينتمون إلى الإسلام السياسي، وهو تيار غير معروف عنه التطرف في التعصب الوطني أو تبني مفهوم النقاء العرقي. بل أن بعض أطراف هذا التيار متهمة بالتفريط في فكرة الوطن من أساسها على أساس أن الإسلام هو الوطن. هل تذكروا مقولة “طظ في مصر” لمهدي عاكف المرشد السابق للإخوان؟ هل تتذكروا حينما قال أنه لا مانع لديه أن يرأس مصر شخص ماليزي؟ عفواً، لا أقول أبداً أن ذلك هو موقف كل التيار الإسلامي، فبعضهم يسعى فعلاً لمصالحة انتمائه الديني مع الوطني. ما أريد بيانه أن فكرة النقاء العرقي والتشدد ضد الأجانب (على الأقل المسلمين منهم) لا تمت بصلة لفكر المستشار البشري وبعض أعضاء اللجنة. فلماذا قاموا بذلك التعديل؟ الإجابة عندهم وليست عندي. في الحقيقة رد المستشار البشري بأن المحكمة الإدارية العليا لها حكم سابق بخصوص أعضاء مجلس الشعب من مزدوجي الجنسية هو رد غير مقنع. نحن في مرحلة تعديل دستوري تمهد لقيام دستور جديد. فهل نُكيف التعديلات والدستور الجديد مع أحكام وقوانين قديمة. أي منطق هذا؟

المهم، بما أنني ما كان بإمكاني التصويت بنعم على نصف التعديلات وبلا على النصف الأخر، فقد قررت أن أصوت بلا، لكي ندخل في تعديل دستوري حقيقي، خاصة أني أتبنى وجهة النظر التي تفضل بناء الدستور “على نضافة” ومن الأول. هكذا دخل صوتي في زمرة أربعة مليون قالوا لا. والحقيقة أنا لا أعرف كم من الذين قالوا لا يشاركني في المعارضة الشديدة للتمييز ضد المصريين من مزدوجي الجنسية. وبالمثل لا أعرف مطلقاً كم من المصريين قرر أن يقول نعم وهو موافق على التشدد في شروط جنسية مرشح الرئاسة. نتيجة الاستفتاء لا تقول لنا هنا أي شيء. اعذروني إن كنت سألجاً لمثال من الماضي لكي أثبت فكرتي. لقد قال الشعب المصري في 1980 نعم لتعديلين دستورين طُلب منه إبداء الرأي فيهما. قال نعم لإضافة الألف واللام لكلمة مصدر. هكذا أصبحت الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع. كما قال نعم على تعديل المادة 77 لكي يتاح للرئيس البقاء في السلطة مدى الحياة بعد أن كانت سلطته محدودة بمدتين. هل تظنون أن الشعب المصري كان يريد فعلاً رئيساً مدى الحياة؟ والآن وبعد أن اكتوينا برئيس ظل في السلطة 30 عاماً وأذاقنا العذاب والذل، هل ننتبه إلى خطورة حشر مواد دستورية مع مواد أخرى والتصويت عليها حزمة واحدة بدون مناقشة أو تفكير.

لقد حدث ما حدث. هذا المقال لا يهدف إلى النبش في الماضي. هو يريد فقط أن يثبت نقطة أساسية أعتقد أنها ستعصمنا من الكثير من المشاكل في المستقبل عندما نكتب الدستور الجديد: إن قدرة الدستور بمواده المختلفة على الحصول على توافق وطني وتأييد واسع من الشعب لا تأتي من التصويت عليه، لأن التصويت لا يمكن أن يتم مادة مادة، بل عليك أن تصوت على الدستور كحزمة واحدة. أهم شيء في الدستور هو مرحلة الكتابة بكل ما تشتمل عليه من اختيار لجنة صياغة تمثل كل أطياف الشعب المصري تمارس عملها أمام شاشات التلفزيون وليس وراء أبواب مغلقة، ومن نقاشات وحوارات تصاحب عملية الكتابة من أجل الوصول في النهاية إلى توافقات على المباديء والأسس التي تقوم عليها الدولة. وهذا لم يحدث في التعديل الأخير. فاختيار لجنة التعديل لم يكن موفقاً بأي حال من الأحوال، لأنه استبعد بالكامل تيارات أساسية في المجتمع، ولوًن اللجنة بلون تيار بعينه، مما أدى للأسف إلى تحويل مسار النقاش والتعبئة والحشد إلى قضايا ومواد في الدستور لم تكن مطروحة أصلاً، وأدى إلى وقوف العديد من المسلمين مع التعديلات من منطلق الدفاع عن الإسلام، ووقوف اصطفاف العديد من المسيحيين ضد التعديلات لأن الموضوع كان غامضاً عليهم فقرروا التصويت بعكس الإخوان، خاصة أن النظريات التي تتحدث عن تحالف خفي بين الجيش والإخوان منتشر بشدة هذه الأيام. فلننتبه إلى هذا في المستقبل. تكوين لجنة كتابة الدستور والاضطلاع على مناقشاتها بكل شفافية أهم من التصويت علي الدستور. وبالتأكيد المعركة مستمر لإسقاط مواد الجنسية التي تم حشرها في المواد الدستورية الجديدة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *