الوصاية على الشعب في التعديلات الدستورية الأخيرة

التعديلات على دستور 1971 التي أدخلتها لجنة تعديل الدستور بقيادة المستشار طارق البشري أصابت الكثيرين بالدهشة والإحباط. لقد أفاض العديد من خبراء الدستور والعاملين بالشأن العام في بيان عوار هذه التعديلات وفشلها في تمهيد التربة لمرحلة انتقالية سلسة إلى الحرية والديمقراطية. هذه المقالة تتعرض للروح الكامنة خلف التعديلات، وهي في نظري روح وصائية استعلائية معادية للحريات تسير عكس تلك الروح التي فجرتها ثورة يناير.
روح الوصاية على الشعب تتجلى أوضح ما تتجلى في شروط الترشح لرئاسة الجمهورية. لقد تشددت التعديلات في شروط الجنسية التي يجب توافرها في المرشح. فلم تكتف فقط بالنصوص الموجودة في دستور 1971 والتي تشترط مصرية المرشح كما مصرية والديه، لكنها زادت على ذلك أيضاً ألا يكون قد حمل جنسية أجنبية وكذلك الأمر بالنسبة لوالديه. هذا بالإضافة إلى عدم زواجه بأجنبية. وحتى لو تخلى عن جنسيته الأجنبية (وربما عن زوجته) فلن تغفر له اللجنة ذلك وستحول بينه وبين الترشح.

ماذا كان في ذهن اللجنة التي صاغت ذلك التعديل؟ من المؤكد أنها تعتقد أن هناك احتمالية ما أن يترشح مصري حامل لجنسية أجنبية أو قد حملها أو متزوج من أجنبية، وأن يحصل هذا المرشح على تأييد معظم الشعب. لذلك رأت اللجنة أنه يتوجب على “عقلاء الشعب” أن يحموا هذا الشعب من نفسه بأن يعفوه من غوايه التصويت لهذا النوع من المرشحين. قيام اللجنة بوضع هذا الشرط المتشدد في الجنسية هو دليل على أنها تعتقد أن هناك مصريين يحملون جنسية أخرى قادرون على الفوز بمنصب الرئاسة. بالضبط كما أن النظام البائد يضع شروطاً تعجيزية أمام المشرح المستقل إيمانا منه بأن هناك العديد من الشخصيات المستقلة كانت تستطيع منافسة مبارك وهزيمته. إنه نفس المنطق الذي كان يبرر انفراد مبارك بالسلطة. فكانوا يقولون أننا لو فتحنا باب الترشح لكل من هب ودب فإننا نخاطر بأن يأتي مرشحاً مدعوماً من الخارج ويشتري أصوات المصريين ومن ثم يفوز بالرئاسة. إذا لم تكن هذه وصاية على الشعب فما هي إذن الوصاية؟ ما هذا الاحتقار للشعب والاستعلاء عليه؟ هل أغلبية الشعب المصري من السفهاء المستعدين لتسليم الرئاسة لشخص مشكوك في وطنيته.

لقد كان على من قرر التشدد في شروط الجنسية أن يفكر كثيراً. فالخاسر الأول هنا هو مصر. فهذا التشدد يرسل رسالة سلبية إلى ملايين المصريين في الداخل والخارج من المتزوجين من أجانب أو من حملة جنسية أخرى. فهؤلاء الملايين هم رصيد استراتيجي لأي نهضة مصرية. فالكثير منهم له من العلم والخبرة والعلاقات والمال مما يمكن أن يضعه في خدمه هذا البلد. وهؤلاء الملايين قد شاركوا في الثورة، إن لم يكن بالتظاهر وتنظيم الصفوف لدعم الثورة، والاتصال بالأهل والأصدقاء لشد أزرهم، فقد ساهموا بالدعاء والتمني.

تتجلى روح الوصاية أيضاً في شرط سن المرشح الذي لابد أن يكون قد أتم 40 عاماً. ماذا كان في ذهن من سن هذا الشرط في دستور 1971 ومن أبقاه في التعديلات الأخيرة؟ هو يعتقد أن هناك إمكانية أن يترشح “مراهق” يبلغ من العمر مثلاً 39 سنة وأن “ينخدع” فيه المصريون ويؤيدونه. لذلك أراد المشرع أن يحمي الشعب من نفسه. الحقيقة أن أي شرط استبعادي للمرشحين للرئاسة يهدف إلى الحيلولة دون فوز شخص يتمتع بتأييد واسع ولكنه غير جدير بالمنصب الأرفع في الدولة. فالمشرع لم يضع مثلاً الصحة العقلية كشرط للترشح لأنه لا يظن أن هناك أي احتمالية أن يؤيد الشعب مرشحاً مجنوناً.

هذا النقد الذي أوجهه لشرط السن لا يعني أني أريد بالضرورة رئيساً أقل من 40 سنة. أظن أن السن الأمثل لتولى الرئاسة هو ما بين 40 و50 عاماً، وهو العمر الذي يكون فيه المرء قد اكتسب خبرة ولا زال يتمتع باللياقة الجسمانية والذهنية القصوى لكي يتحمل أعباء منصب الرئاسة. لكن ماذا لو بزغ مرشح له من العمرً 35 عاماً، ويكون قد نضج مبكراً وحصل على تأييد الكثير من المصريين للعديد من المؤهلات والكفاءات؟ لا أعتقد إن إصرار المشرع على فرض حداً أدنى للسن منبعه رغبته في أن يكون سن الرئيس هو الأنسب للقيام بأعباء وظيفته. والدليل على ذلك أن المشرع لم يضع حداً أقصى لسن المرشح وليكن 80 عاماً؟ أليس تقدم عمر الرئيس السابق كان من المشاكل الرئيسية التي ساهمت في خراب الدولة؟ فقد أجبرته ظروف الشيخوخة إلى قبول مساعدة ابنه له في الحكم. هذه الملحوظة لا تعني أنني أؤيد فرض حداً أقصى لعمر المرشح. إنني فقط أريد بيان أن المشرع الذي عدل الدستور غير مدرك للواقع السياسي المصري الراهن الذي ثار عليه المصريين. ناهيك عن أنه غير متفاعل مع الثورة المصرية المجيدة التي أثبتت أن الكثير من الشباب قادر على قيادة الأمة إلى الحرية. إن احتقار الشباب والتقليل من شأنهم كان وسيظل أحد الأمراض المصاحبة للاستبداد. وبالمناسبة اشتراط تجاوز المرشح لعامه الأربعين ليس فقط استبعاداً للشباب, ولكن أيضاً للعديد من الكهول، فالتعريفات العلمية لمرحلة الشباب تضع هذه المرحلة بين حوالي 16 و30 عاماً.

لقد سارت لجنة تعديل الدستور على عكس روح ثورة يناير، روح تحرر الشعب من الوصاية عليه، روح ثورة الناس على من يعاملهم باعتبارهم أنصاف مواطنين لا يعرفون مصالحهم. إن أهم ما أتى به شعار الثورة الجامع “الشعب يريد إسقاط النظام” هو الشطر الأول من الشعار “الشعب يريد”. نعم.. لقد أصبح الشعب فاعلاً وليس مفعولاً به. والفاعل له أن يريد وأن يقرر وأن يتحمل نتيجة قراراته. لقد أكدت التعديلات الدستورية المشوهة الحقيقة الساطعة التي رددها العديد من الثوار وأنصار الثورة ولا زالوا يؤكدونها وهي أن المرحلة الانتقالية لا تسير بسلاسة وكفاءة لأن من قام بالثورة ودفع ثمنهاً دماً وعرقاً ووقتاً لا يزال مستبعد من المشاركة في قيادة هذه المرحلة. وذلك هو أحد عوامل إهدار وقت وجهد الشعب المصري في الشهر الماضي الذي أعقب ثورة يناير المجيدة. إن لجنة تعديل الدستور فشلت في مهمتها، وسيكون من الخطأ الفادح إعطاءها صلاحيات أخرى لتعديل قانون الأحزاب السياسية. فما أعلنه المستشار البشري من خطوط عامة للتعديلات تشي بأننا مقبلون على تعديلات كارثية. ولكن لهذا حديث أخر.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *