ما وراء حدوته جمال مبارك

قضية جمال مبارك أكبر من أن تختزل في قصة ابن رئيس جمهورية في دولة ديكتاتورية تحوم حوله شائعات بأنه سيخلف أباه في الحكم. ربما يكون أحد أسباب تلخيص قضية السياسة في مصر كلها في شخص ابن الرئيس هو غرابة ما نراه في منطقتنا العريقة، مهد الحضارات… أنظر إلى الأتي: جمهوريات كانت ترفع شعارات زاعقة من الثورية والتقدمية مثل سوريا تتحول إلى ملكيات غير دستورية. وهو شيء لم يتوقعه المتخصصون في النظم السياسية العربية. منذ السبعينات وهم يتوقعون سيناريوهات عدة لنهاية النظم العربية التي أعقبت الاستقلال ولم يكن من بينها أن تتحول إلى ملكيات. وإذا كان المتخصصون قد فوجئوا بهذا التحول فليس لهم أن يلوموا الناس لأنهم يفركون أعينهم أمام ما يروه من نظم جمهورية ترفع الكاب لترتدي التاج. والبالغون كالأطفال أحياناً يعشقون ما هو غريب وجديد. الساحة السياسية كانت شديدة الملل بشخوصها التي لم تتغير منذ سنوات طويلة. هكذا كان الشعار الذي تردد كثيراً في بعض المظاهرات الأخيرة هو: “كفاية… حرام…” كان لوصول شاب يافع، جمال مبارك، إلى مسرح الحكم دوراً في كسر الملل. لقد أصبح المادة الأساسية للنقاش. ولكن هذا النقاش أصبح بدوره مملاً. وهذا لأننا نلعب دور المتفرج. والمتفرج لابد وأن يشعر بالملل إذا لم تقدم له الجديد كل لحظة. وهذا ما لا يستطيعه نظامنا السياسي العجوز. ولكي نكسر الملل، ولأنه من الأفضل أن تثرثر الناس حول قضية جمال مبارك على أن تنسى تماماً موضوع السياسة في بلدها ربما يكون علينا أن نترك خشبة المسرح قليلاً لكي نتعرف على ما ورائها. وهنا يجب أن نتذكر أن الممثل ليس البطل الأوحد في العمل الفني. فلكي يكون الممثل بطلاً يجب أن يجد من يكتب مسرحيته ومن يمولها ومن يقوم بإخراجها ومن يمثل أمامه فيها، ومن يشيد ويصون وينظف المسرح. هؤلاء أيضاً يجب التعرف عليهم إذا كان لنا أن نفهم أبعد من المشهد الذي يؤديه ابن الرئيس منذ عدة سنوات.

في كواليس المسرح السياسي
النظام الاستبدادي المصري هو الامتداد الطبيعي للنظام البيروقراطي الذي أسسه جمال عبد الناصر عام 1952. لقد اختار عبد الناصر السادات، واختار السادات مبارك. وها نحن قد عشنا تحت حكم السادات و حكم مبارك. هذا الانتقال السلمي والهاديء للسلطة السياسية يشي بأن النظام الحاكم لم يتغير، ولكنه كان يجدد نفسه من فترة إلى أخرى. صحيح أن السادات قد انقلب على بعض سياسات عبد الناصر، وأن مبارك قد كبح الساداتية والساداتيين. ولكن تلك هي طبيعة الأمور. فلكل رئيس شخصيته و ميوله. كما أن هذا الرئيس يستجيب لظروف مختلفة تماماً عن سلفه. الرؤساء الثلاثة يختلفون في أمور شتى ولكنهم يشتركون في شيئاً أساسياً: كان انفرادهم بالحكم مبنياً ليس فقط على العصا، ولكن أيضاً على الجزرة. لقد كانوا يوزعون العطايا من أجل أن يقبل الناس بحكمهم. هذه العطايا قد تكون قروض من بنوك القطاع العام لبعض رجال الأعمال، أو أن تكون بعض الوظائف (الحقيقية أو الوهمية) في الدولة، أو أن تكون دعم للسلع الغذائية الأساسية. صحيح أن العطايا (خاصة الممنوحة للفقراء) لم تكن تستحق أن يرتكن الناس إلى السكينة، ولكن ذلك ما حدث في مصر.

لأسباب عديدة لا مجال هنا لذكرها، لم يعد النظام الحاكم قادراً على توزيع العطايا. فخزانته تعاني منذ سنوات طويلة من عجز ضخم. بهذا تمر البيروقراطية الحاكمة بأزمة من أعمق الأزمات التي تعرضت لها منذ وصولها إلى السلطة عام 1952. فهي تفتقد لأي شرعية داخلية في ممارسة الحكم، وأصبحت تخسر تدريجياً دعم ظهيرها الدولي، الولايات المتحدة، والتي عاشت سنوات من فضل مساعداته ودعمه، وهي بذلك تفتقد للموارد اللازمة لشراء سكوت كل من لا يؤمن بشرعية النظام، وهم كثيرون. يبدو أن الحل الوحيد لإنقاذ النظام يكمن في توسيع قاعدته الاجتماعية وإمداده بموارد يستطيع من خلالها أن يدير بكفاءة أعلى جهاز الدولة، وأن يشتري سكوت بعض المتذمرين. وهنا تبدو الرأسمالية المصرية باعتبارها الفئة الأساسية التي يلجأ إليها النظام لكي تساعده في إطعام الأفواه الجائعة وبذلك يتحقق الاستقرار الاجتماعي. هكذا نسمع كثيراً منذ فترة عن أهمية “الدور الاجتماعي لرجال الأعمال”. والوضع الآن كالأتي : نصف سكان مصر من الفقراء ونصفها الأخر من الأغنياء أو المستورين. في دولة ديمقراطية حديثة ستتوسط الدولة بين الأغنياء والفقراء، ستأخذ من هذا لتعطي لذاك. ستذهب صباحاً إلى رجل الأعمال لكي تأخذ منه ضرائب لكي تعطيها في أخر النهار للجوعى من الفقراء والعاطلين عن العمل. بالطبع هناك مؤسسات أخرى في الدول الديمقراطية الحديثة تلعب دور الوسيط بين الأغنياء والفقراء كالجمعيات المسيحية والإسلامية. ولكن يظل القدر الأعظم من النقود التي تتدفق من أعلى الطبقات إلى أسفلها يمر عبر خزانة الدولة. أما في الدول المستبدة تتم العملية بشكل مختلف: فالنقود تذهب بشكل مباشر من يد الغني إلى يد الفقير دون أن تمر في الدولة. هكذا تصبح مهمة الفقراء هنا شاقة جداً. فبدلاً من الذهاب لتسجيل أسمائهم في سجلات العاطلين والمحرومين، عليهم الذهاب بأنفسهم للأغنياء في عقر دارهم أو في حوانيتهم أو في سياراتهم لطلب الإحسان. وهذا ما يجعل اللعبة الانتخابية في مصر سوق للبيع والشراء. لأنها “موسم”.

مصر تعيش إذن في عصر أفول الدولة وصعود رجال الأعمال. أنظر إلى انتخابات مجلس الشعب في عام 2000 والتي أظهرت القدرة الطاغية للمال على تحقيق مكاسب انتخابية في مواجهة الحزب الحاكم. لأول مرة في تاريخه اقتصرت نسبة المقاعد التي حصل عليها على 40% فقط. ولم يستطع تحقيق الأغلبية في مجلس الشعب إلا بضم المستقلين. معظم هؤلاء المستقلين ينتمون بالطبع للحزب الوطني، ولكن الحزب رفض ترشيحهم، فربحوا الانتخابات بمواردهم الخاصة (“بفلوسهم”). معظمهم هرول للعودة للحزب الوطني بالطبع لأن تسيير مصالح دوائرهم تحتاج إلى علاقات خاصة بالنظام. هل يمكن نقل تلميذ من مدرسة إلى أخرى إلا بتوقيع وزير التعليم؟ هل يمكن تعيين أحد الأبناء في وظيفة بدون واسطة من مسئول كبير؟ نائب مجلس الشعب ما زال يحتاج إلى البيروقراطية لخدمة أبناء الدائرة. ولكن البيروقراطية الحاكمة تملك موارد أقل لشراء رضاء الناس. هي تعتمد الآن على قدراتها في تعطيل مصالح المواطنين لكي تحصل على منهم على رشاوى أو لكي تفرض عليهم الخضوع. ولكنها لا تملك في أغلب الأحيان أكثر من ذلك.

نحن نعيش الآن مرحلة أفول النظام البيروقراطي التسلطي لصالح رأسمالية صاعدة تملك ولا تحكم. وقد كانت راضية بذلك في الماضي، ولكنها اليوم باتت تقتنع أكثر فأكثر بأن النظام القائم قد أعيته السنين ويجب تجديده. وهذه الطبقة منقسمة اليوم أمام الاختيارات. المشروع الأساسي لإحياء النظام يتمثل في مبارك الابن. فمشروعه يقوم على تجديد القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي عن طريق إدماج رجال الأعمال في السلطة البيروقراطية لإنتاج مركب استبدادي جديد، يعطي لرجال الأعمال دوراً أكبر في تقرير سياسات البلاد. ومؤهلاته في ذلك عاملين: الأول هو كونه ابن رئيس الجمهورية الحالي، فهو إذن ابن البيروقراطية المصرية العليا وسيحافظ على الحد الأدنى من مصالحها. والثاني كونه عمل بالبيزنس ودرس إدارة الأعمال وأمن بالاقتصاد الحر، وهو بذلك ابن مخلص للرأسمالية المصرية. مبارك الابن يلخص في شخصه اتحاد بل زواج أقوى فئتين اجتماعيتين في هذا البلد: البيروقراطية والرأسمالية.

مشروع جمال مبارك للزواج بين البيروقراطية والرأسمالية تعترضه عقبات. فهناك قطاعات من البيروقراطية لا تريد الزيجة بهذا الشكل، وهي مستعدة لأن ترفع شعار “لا للتوريث”. وهناك قطاعات من الرأسمالية تريد أن تتخلص بشكل أكثر حدة من البيروقراطية، وهذا ما لا يستطيعه جمال مبارك. أي أن جبهة خصوم مبارك الابن تضم الأضداد: من يعارضه لأنه ليس بيروقراطياً بما يكفي ومن يعارضه لأنه ليس ليبراليا بما يكفي. بالإضافة إلى ذلك هناك فئات اجتماعية واسعة لا ترى في جمال مبارك (سواء لانتمائه للنظام أو للرأسمالية) مشروعاً يحقق مصالحها، ولكنها تلتزم الصمت وتكتفي بالنميمة حول شخصية الرئيس القادم خوفاً من القمع، أو خوفاً من بديل أسوأ، أو ببساطة لعدم وضوح بديل على الإطلاق.
قد يحتل جمال كرسي أبيه وقد ولا يحتله. ولكن هذا لا يهم. المهم أن مشروع الزواج ما بين البيروقراطية والرأسمالية يجب أن يتم، لأنه ليس هناك حل أخر أمام البيروقراطية الحاكمة. هي تحتاج لتعاون الرأسمالية من أجل إمدادها بالمال ومن أجل إخراج نقودها من تحت البلاطة واستثمارها في الاقتصاد و إلا لتعمق الكساد وزاد الجوعى وأصبح المجتمع كله في مهب الريح. معارضو جمال مبارك كثيرون. ولكن معارضو الزواج بين الرأسمالية والبيروقراطية أقل بكثير. والأمر بسيط: العروس تحتاج إلى الزواج لأنها لا تتحمل العيش في هذه الوحدة الموحشة. المعارضة الحقة لهذه الزيجة تتطلب أن يتقدم أحد لكي يزيح الرأسمالية ليتزوج هو البيروقراطية. حتى هذه اللحظة بعض رجال الأعمال هم الجهة الوحيدة التي تقدمت لهذا الزواج.

ما العمل؟
رجال الأعمال لن يكونوا غالباً
فشل المعارضة في أن تجتذب من رجال الأعمال.
المعارضة فشلت في اجتذاب رجال أعمال.
الحزب الوطني يمثل العاملين بالدولة، هم يكرهون النظام، ولكن لا حيلة بالنسبة لهم إلا تقبله. هم يعملون عند الدولة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *