هل تنجز حكومة نظيف التحول الليبرالي للاقتصاد المصري؟

يكاد يجمع جميع المحللين في مصر على أن حكومة أحمد نظيف التي تولت الحكم في صيف 2004 تمثل انعطافة ناحية اليمين، أي صوب تسريع عملية التحرير الاقتصادي التي تبناها النظام المصري الحاكم منذ 1974، عندما أعلن الرئيس الراحل أنور السادات انطلاق ما سماه بالانفتاح الاقتصادي. منذ عام 1974 وحتى الآن تصنف دراسات الاقتصاد السياسي مصر على أنها دولة في مرحلة انتقالية ما بين نظام الاقتصاد المركزي، الذي تسيطر فيه الدولة على مفاصل العملية الإنتاجية، إلى نظام الاقتصاد الحر، الذي تكتفي الدولة فيه بدور مراقبة وترشيد هذه العملية. لم يخطيء المحللون حينما تفهموا تولي حكومة نظيف المسئولية باعتبارها انعطافة ناحية اليمين للنظام المصري. ولكنهم يظلوا في حيرة أمام المدى الذي يمكن أن تذهب إليه هذه الحكومة في عملية التحرير الاقتصادي، لأن الأمر لا يتعلق فقط بالاقتصاد ولكن أيضاً بالسياسة. فالمعادلة السياسية التي يقوم عليها النظام فيها من المتغيرات الاقتصادية التي لا تسمح باللعب فيها بدون تهديد حالة الاستقرار السياسي التي تمثل الهدف الأول لنظام الحكم في مصر. فهل تنجز حكومة نظيف عملية الانتقال من الاقتصاد المركزي إلى اقتصاد السوق؟

الانعطافة ناحية اليمين تتجلي في تولي بعض رجال الأعمال ولأول مرة منذ عام 1952 مسئوليات وزراية. ربما تكون هناك حالة واحدة سابقة وهي حالة عثمان أحمد عثمان، رئيس شركة المقاولين العرب، الذي تولى مسئولية وزارية في عهد السادات. ولكن إذا تذكرنا أن شركة المقاولين كانت شركة مشتركة بين القطاعين العام والخاص، وبأن عثمان كان نسيب للرئيس السادات، سيظل بوسعنا أن نعطي لحكومة نظيف، التي احتوت على رجال أعمال، دلالة كبيرة وغير مسبوقة. فالمناصب السياسية في مصر توزع على الفئات الاجتماعية والمهنية بميزان دقيق وبمعادلة شبه مستقرة. فعلى سبيل المثال هناك معادلة تحكم توزيع منصب المحافظين، أي حكام أقاليم مصر المتخلفة. فهناك حصة للشرطة وللقضاء وللجيش ولأساتذة الجامعة. أما مناصب الوزراء فكان يكاد يحتكرها التكنقراط (الخبراء) من أساتذة الجامعة وغيرهم بالإضافة إلى قيادات مؤسسات الدولة. وإذا كان الخبراء يحصلون على نصيب وافر من المناصب الحكومية فذلك لأن النظام السياسي يتعامل مع مشاكل البلاد باعتبارها مشاكل فنية، يستطيع أن يحلها من له المعرفة العلمية والعملية. ليست صدفة أن كل رؤساء وزارات مصر في عهد مبارك، باستثناء كمال حسن على، هم من حملة الدكتوراه. وكل مرة عندما يلوح في الأفق تعديل وزاري تدور التكهنات حول رئاسة الوزارة من بين حملة دكتوراه. وعلى هذا فإن تولي رجال أعمال مناصب وزارية هو بمثابة اعتراف من النظام السياسي بأن رجال الأعمال لديهم من الخبرة والمعرفة ما يؤهلهم لإدارة مؤسسات الدولة الكبرى مثل الوزارات. إنه إنجاز رمزي أو معنوي كبير حققه رجال الأعمال المصريين. ويضاف إليه بالطبع تولي اقتصاديين من التيار الليبرالي حقائب مهمة مثل د. يوسف بطرس غالي في المالية، ود. محمود محي الدين في الاستثمار.

ولكن السؤال هو إلى أي مدى تمثل حكومة نظيف مؤشراً على تحول نوعي في سرعة عملية التحرير الاقتصادي التي بدأها النظام في مصر منذ عام 1974. المحلل لديه كل الحق في التريث. لأن الإشارات التي يعطيها النظام في مصر لا تكون بالضرورة في الاتجاه الصحيح. هكذا كان بعض الظرفاء يقولون عن الرئيس السادات أنه كان يأمر سائقه بإعطاء إشارة لليسار، ثم يأمره بعد ذلك بالانعطاف بالسيارة إلى اليمين. أي أنه كان يزيد من جرعة خطابه اليساري لكي يعوض خطوات التحرير الاقتصادي اليمينية التي كان يسير فيها بالفعل. النظام المصري أعطى العام الماضي إشارة لليمين، فهل هو يتجه فعلاً إلى اليمين؟ لقد أعطى بعض الحقائب الوزارية لرجال الأعمال، فهل يعطيهم على الأرض سياسات “مشجعة للاستثمار”؟

يبدو أن الانعطاف اليميني ليس بالشيء السهل في مصر. أنظر إلى حكومة د. عاطف عبيد التي تولت المسئولية عام 2000 بدلاً من حكومة الجنزوري التي لم يكن لها قبول واسع من جهة المستثمرين. كان د. عبيد يتولى وزارة قطاع الأعمال العام في ظل الجنزوري، وكان يصنف باعتباره أحد صقور التيار الليبرالي في الحكومة. لذلك عندما تولى رئاسة الوزارة عام 2000 مال المحللون إلى توقع انعطافة يمينية في السياسية الاقتصادية. هذا لم يحدث. بل أن علاقات الحكومة برجال الأعمال تدهورت، وتجلى ذلك في مطاردة الحكومة لبعض رجال الأعمال المتعثرين في سداد القروض المستحقة عليهم لبنوك الدولة، بالإضافة إلى اتخاذ بعض القرارات المشكوك في دستوريتها مثل إجبار المصدرين على تسليم ثلاثة أرباع حصيلتهم من العملة الصعبة إلى البنوك. يمكن تلخيص العلاقة السيئة بين رجال الأعمال وحكومة عبيد في العبارة التي قالها مؤخراً نجيب ساويرس، أحد أكبر رجال الأعمال في مصر: “لم استثمر قرشاً واحداً في عهد حكومة عبيد.”

خلاصة الأمر أن تولي الليبراليين (رجال أعمال وخبراء) مناصب هامة في حكومة نظيف ليس بالضرورة مؤشراً على تحول ليبرالي في السياسة الاقتصادية. فلنترك إذن المناصب لنرى الممارسات الحكومية على الأرض. لقد مالت هذه الممارسات بالفعل إلى تخفيف التوتر بين الحكومة ورجال الأعمال. فشهد القطاع المصرفي العديد من التسويات بين رجال الأعمال المتعثرين في سداد القروض وبين البنوك، كما تراجعت الحكومة عن إجبار المصدرين على التوريد الإجباري للعملة الصعبة. هذا بالإضافة إلى إعلانها العزم على إصدار قانون الضرائب الجديد الذي طال انتظاره منذ أن أعلنت حكومة عبيد عن رغبتها في إصداره منذ عام 2000. وزادت الحكومة على ذلك بأن قامت بعدة تعديلات في هذا القانون لكي تخفض من أسعار الضرائب على رجال الأعمال ليس فقط من 40% إلى 30% ولكن أيضاً إلى 20%.

هل نحن إذن بصدد تحول جذري في السياسة الاقتصادية في مصر؟ صعوبة الإجابة على هذا السؤال تكمن في أن الإجابة عليه تحتاج إلى التحليل السياسي مثلما تحتاج إلى التحليل الاقتصادي. فلنأخذ قانون الضرائب كمثال. الهدف الأساسي من هذا القانون هو زيادة إيرادات الدولة عن طريق الحد من التهرب الضريبي. فقد اتفق الخبراء في المؤسسات الدولية وأيضاً في مصر على أن تخفيض أسعار الضرائب يشجع الناس على الالتزام، وأن فرض ضرائب باهظة يدفعهم إلى التهرب. النتيجة منطقية لا شك ولكنها تغفل مسألة شرعية فرض الضرائب. فالناس لا تتهرب فقط من الضرائب لأنها باهظة، ولكن لأنها لا تضمن أن ما ستدفعه سيعود عليها أو على المجتمع بالنفع. الناس في مصر ساخطة على سوء مستوى الخدمات التي تقدمها الدولة. فكيف يمكن للدولة أن تعطى لهم ضمانات بحسن استخدام الحصيلة الضريبية؟ الضمانة المعروفة والمستخدمة عالمياً هي وجود ممثلين عن المجتمع لمراقبة إنفاق الدولة. وهنا نحن نتحدث عن الديمقراطية ليس إلا. لذلك فبدون إصلاح سياسي جذري في مصر يصعب تصور زيادة خضوع الناس لسلطة الدولة الضريبية. البديل عن محاولة تنمية قناعة الناس بجدوى الضرائب هو قسرهم على الالتزام الضريبي. وهذا يتطلب جهازاً ضريبيا شديد الصرامة مع الممولين وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه إلا بإصلاح جذري في الجهاز الضريبي للقضاء على الفاسدين الذين يسهلون عملية التهرب الضريبي. ولكن المشكلة أن إصلاح جهاز الدولة الضريبي سيكون بالأمر العسير. فهو يتطلب ضغطاً شديداً لإيقاف ممارسات تكرست طوال عقود. وهذا سيكون له عواقب سيئة بالنسبة للاستقرار السياسي، لأنه سيزيد من أعداء النظام داخل البيروقراطية. وذلك لا يمكن موازنته إلا بزيادة أصدقاء النظام من خارج البيروقراطية، وهو الأمر الذي يحتاج أيضاً لتحولات سياسية.

هذه المعوقات السياسية تظل عقبة أمام التحول الليبرالي السريع في السياسة الاقتصادية. ولكن لا يبدو أن النظام في مصر لديه بديل عن التحول الليبرالي. فنسبة البطالة مرتفعة جداً والدولة تحتاج هنا إلى تعاون المستثمرين من أجل خلق الوظائف، لأن الوظائف التي تخلقها الدولة محدودة العدد وغالباً ما تكون وظائف وهمية ومتدنية من حيث عائدها المادي. بالإضافة إلى ذلك فإن الدولة باتت عاجزة أكثر فأكثر عن تمويل نفقاتها، بسبب تدهور المساعدات الخارجية وبسبب عدد السكان المتزايد الذي لم تعد المليارات القليلة من عائدات قناة السويس والبترول تنجح في تلبية مطالبهم. نحن نتحدث إذن عن زيادة العجز الصافي في موازنة الدولة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي الذي ارتفع من حوالي 1% في منتصف التسعينات إلى حوالي 8% في العام الماضي. كان تخفيض معدل عجز الموازنة هو أهم إنجاز لسياسية الإصلاح الاقتصادي التي شرع النظام المصري فيها في عام 1990. لذلك فبعودة هذا العجز إلى المعدلات التي سادت في أواخر الثمانينات تكون أهم إنجازات الإصلاح الاقتصادي قد ذهبت أدراج الرياح.
خلاصة القول أن هناك ضغوط كثيرة تدفع النظام في مصر إلى إنجاز المرحلة الانتقالية من الاقتصاد المركزي إلى اقتصاد السوق. النخبة المصرية استوعبت هذه الحقيقة بالكامل. ما لم تستوعبه هذه النخبة بالكامل هو أن الانتقال إلى اقتصاد السوق في مصر يتطلب تحولات سياسية هامة، لا زال النظام المصري يناور للهروب منها.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *