الديمقراطية وقانون الضرائب الجديد

حينما حاول بعض الصحابة إقناع أبو بكر الصديق بغض الطرف عن الذين أمتنعوا عن دفع الزكاة قال قولته المشهورة ” والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم على منعه “. حين قال أبو بكر هذه العبارة كان يتحدث كرجل دولة من طراز رفيع يفهم جيداً أن الامتناع عن دفع الضرائب يعني ببساطة عدم الاعتراف بسلطة الدولة والخروج عليها. لأن نشأة الدولة من الناحية التاريخية وخضوع سكان ما لسلطتها كان يبدأ بفرض الضرائب على هؤلاء الناس، سواء لتمويل أعمال المنفعة العامة التي لا غنى عنها كالطرق والجسور والترع، أو لتشييد القصور والأهرامات للأرستقراطية الحاكمة، وهي أشياء يمكن بالطبع الاستغناء عنها في مجتمع حديث وحر.

الضرائب إذن ليست قضية إقتصادية فحسب ولكنها في صميم الممارسة السياسة. لأن دفع الضرائب يعد من أهم العلاقات التي يلتقي فيها المواطن مع الدولة. وهذا اللقاء يكشف دائماً عن تصور الدولة للمواطن وعن تصور المواطن للحكومة. فإذا تهرب معظم دافعي الضرائب من التزاماتهم سيكون ذلك مؤشراً إما على أنانيتهم وعدم احترامهم لحقوق الدولة والمجتمع (كما تقول السلطة)، وإما على قناعة دافعي الضرائب أن الدولة شرهة وتريد مصادرة دخولهم، وإما على عدم ثقة المواطنين في عدالة وكفاءة المؤسسات العامة التي تدير جمع الضرائب والتي تقوم بإنفاق عوائدها.

القانون الضريبي الذي سيقدم إلى مجلس الشعب قريباً يحتوى على تخفيضات كبيرة في أسعار الضرائب، خاصة في حالة ضريبة الأرباح التجارية التي انخفضت من 40% إلى 20%. القانون مبني على المعادلة الاقتصادية السحرية التي صاغها التيار النيوكلاسيكي : لكي تزيد من عائدات الضرائب يجب أن تخفض من أسعارها. وهو ما ترجمه وزير المالية باللغة العامية التي يلجأ إليها كثيراً لشرح أفكاره: ” القليل في الكتير يجمع”. المعادلة السحرية تدعونا إذن إلى توقع زيادة إيرادات الدولة المصرية من الضرائب بعد عدة سنوات. تلك الإيرادات التي مالت إلى الانخفاض المستمر كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وهو الأمر الخطير جداً. لأن إيرادات الدولة الريعية، البترول وقناة السويس والمساعدات الخارجية، تميل هي أيضاً إلى الانخفاض بالنسبة إلى احتياجات عدد سكان متزايد. والنتيجة أن عجز مالية الدولة أخذ في التصاعد وأن الدين العام أخذ في التراكم. الأمانة تقتضي القول بأن السلامة المالية للدولة المصرية في خطر. من المعروف في علم السياسة أن سقوط الدول غالباً ما يكون مرتبطاً بانهيارها المالي.

القانون الجديد الذي ستتقدم به وزارة المالية لمجلس الشعب يفترض أن العامل الرئيسي لتهرب المصريين من الضرائب يعود إلى ارتفاع أسعار هذه الضرائب. وهذا افتراض منطقي. ولكننا لا نعرف إلى أي مدى يمكن لتخفيض الضرائب أن يشجع الناس على الدفع. فكما قلنا سلفاً أسباب التهرب الضريبي تشتمل أيضاً على شكوك الناس في نزاهة وكفاءة الدولة في إنفاق إيرادات الدولة. وهذا ما لا تستطيع وزارة المالية تغييره. لأنها ببساطة ليست الجهة الوحيدة التي تجمع الموارد ثم تقوم بإنفاقها. فما يضبطه الناس من سوء استخدام للموارد من قبل بعض الجهات العامة، ينسحب على الدولة ككل.

إذا كنا جادين في الحفاظ على السلامة المالية للدولة يجب أن نناقش بصراحة وأمانة كيفية وقف تدهور موارد الدولة المصرية. أول خطوة ستكون غالباً الاعتراف بأن قطاع مهم من المصريين يمكن أن يحترم حقوق المجتمع ويساهم في تمويل المنفعة العامة إذا كانت هناك شفافية تسمح له بالاطمئنان على مصير أمواله التي تذهب لمصلحة الضرائب. وهذه الشفافية لن تتحقق أبداً إذا ظلت السلطات المالية تصر على أن الحساب الختامي للموازنة العامة (وهي أهم وثيقة في مالية الدولة) يجب أن تحجبها عن المجتمع، سواء عن طريق عدم إتاحتها للباحثين والصحفيين، أو بواسطة صياغة بنودها بطريقة غير شفافة ومراوغة تخفي أوجه إنفاق الدولة.

المجتمع المصري له تاريخ مرير مع الدولة فيما يخص الضرائب. فالأرستقراطيات الحاكمة لم تتوقف طوال تاريخ مصر عن الجباية لصالح مشروعاتها الخاصة. فمن فرعون يستقطع جانب هائل من موارد المجتمع لبناء هرم لكي يدفن فيه، ومن مملوك ينزل على الناس بالكرباج لكي يساهموا في تمويل قصوره والإنفاق على حريمه، ومن ومن… لنكن صادقين مع أنفسنا: لكي يساهم المصريون بشكل حقيقي في تمويل أعمال المنفعة العامة يجب على الدولة أن تتقدم لهم بالإثباتات أنها لا تنفق هذه الأموال على بناء الأهرامات والقصور.
ربما يكون من حسن طالع الديمقراطية في مصر أنها تفرض نفسها على الساحة السياسية في ظل تناقص موارد الدولة. فهذا التناقص لا يعطي الحكومة أي مفر من طلب موارد إضافية من سكان مصر. ولكي تطلب شيئاً من أحد يجب أن تدفع له المقابل. في مجتمعات كثيرة كان المقابل الذي اضطرت الحكومات لدفعه هو الديمقراطية، أي مشاركة الناس في إدارة شئون الدولة. هكذا تؤكد بعض نظريات العلوم السياسية أن احتياج الدولة للمزيد من الموارد الضريبية يؤدي في بعض الأحيان إلى نمو لاحق لتيارات ديمقراطية وإلى اضطرار الدولة إلى تقديم التنازلات لمجتمع يقوى ويشتد عوده. هل وصلنا في مصر إلى هذه النقطة أم يجب علينا الانتظار عدة سنوات حتى تتفاقم أزمة الدولة المالية ويكون التحرك للإصلاح قضية حياة أو موت.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *