ربما لم تعرف مصر في تاريخها الطويل ظاهرة تلخيص السياسة في “صراع الأجيال” كما تعيشها الآن. يبدو أن كلمة جيل أصبحت ذات جاذبية سياسية إلى الحد الذي يجعل قطاع من الحزب الوطني يتحدث عن “جيل جديد”، وإلى الحد الذي دفع بمجموعة إلى اختيار اسم الجيل كعنوان لحزبهم وإلى الدرجة التي شجعت جماعة أخرى لإعلان حزب تحت التأسيس يحمل اسم “حزب الشباب”. هل نحن فعلاً بصدد تلخيص السياسة في “صدام الأجيال”؟ لماذا لم نعد نلتفت كثيراً إلى أنواع أخرى للصراع مثل صراع اليمين واليسار، صراع الإسلاميين مع أنصار الدولة المدنية، الخ؟ هل ستقوم السياسة في مصر على الصراع بين أجيال متراصة: شيوخ في مواجهة كهول، وكهول في مواجهة شباب، وشباب في مواجهة شيوخ ودواليك؟
مصر تعيش بالطبع حالة من شيخوخة النخبة. أنظر إلى أعمار الذين يتولون أرفع المناصب في الدولة. وهذه المشكلة تخنق الصف الثاني والثالث من القيادات الذي ينتظر تولي المسئولية دون جدوى. ومما يضاعف من هذه المشكلة ارتفاع متوسط الحياة في مصر بسبب تطور الطب. ففي غياب آليات واضحة لتجديد النخبة تصبح الوفاة هي الوسيلة الأساسية للتغيير. وهكذا بدأ صبر قيادات الصف الثاني والثالث في النفاذ. وبدأ التململ يخرج من الغرف المغلقة إلى الفضاء العام.
على أن ظاهرة شيخوخة القيادات ليست خصوصية مصرية وليس لها علاقة بميول محافظة لدى النخبة في هذا البلد. إنه قدر المؤسسات الملكية أو شبه الملكية. أنظر على سبيل المثال إلى حالة بريطانيا. الملكة اليزابيث قاربت على الثمانين ولازالت في العرش بينما ابنها، الأمير تشارلز، الذي خط الشيب شعره والذي يدخل إلى مرحلة الشيخوخة لا يزال ينتظر يوم تنصيبه كملك لبريطانيا العظمى. لكن في رئاسة الوزراء المسألة مختلفة. توني بلير لا يزال في مرحة الكهولة. بل أنه أنجب طفلاً منذ عدة سنوات وكان ذلك مادة خصبة لصحافة التسلية. نحن هنا أمام حالتين متنافضتين في بلد واحد. مؤسسة تعاني من الشيخوخة وهي مؤسسة الملكية ومؤسسة ذات حيوية كبيرة هي مجلس الوزراء. فالمسألة ليس لها أي علاقة بطبيعة شعب أو ميول النخبة الحاكمة، ولكن تحكمها ببساطة آليات اختيار القيادات في المؤسسات. فإذا كانت الآليات تسمح بالمنافسة فستجد حيوية في القيادات، ولكن إذا كانت الآلية الأساسية لتغيير القيادات هي الوفاة، فإننا سنكون أمام قيادات تظل في مقاعدها لدهور. وهنا لا مجال للمناشدات بأن يأخذ الشيوخ المبادرة بالرحيل.
ونحن حين يضيق بنا الحال ونناشدهم الرأفة بنا والتخلي عن مناصبهم لترك الفرصة أمام الشباب (كما تفعل بعض الصحف البريطانية مع ملكة بريطانيا) فنحن نطالبهم بما يفوق طاقة البشر: أن يكونوا ملائكة. وهنا يصعب تصديق أن من يناشد القيادات بالتقاعد هو ساذج إلى حد الاعتقاد أنها ستستجيب. في حقيقة الأمر، الاستخدام المكثف لمصطلح الجيل في الفترة الماضية لم يكن يهدف إلى إقناع الشيوخ بالتقاعد، ولكنه كان يرمي إلى تكوين قوة ضاغطة من داخل ومن خارج النظام السياسي لتجديد دماء المناصب الكبرى في الدولة. وقد بدأ النظام السياسي بالفعل في الاستجابة لتك المطالب. أنظر على سبيل المثال إلى المناصب التي احتلها في الفترة الأخيرة أفراد في حوالي الأربعين من العمر.
من المفهوم أن تلخص بعض الجماعات، في السلطة وخارجها، مشكلة مصر في شيخوخة النخبة. ولكن الذي يستغلق على الفهم هو تخيل أن وصول شباب إلى المناصب الكبرى في الدولة سيخرج مصر من أزمتها السياسية والاقتصادية. ما الذي يضمن أن “الجيل الجديد” الذي سيتولى تلك المناصب سيتركها في يوم من الأيام. فالآلية التي بمقتضاها ظلت قيادات في الحكم لأكثر من عشرين عاماً هي نفس الآليات التي بدأت في اختيار الشباب الآن. ولماذا علينا أن نصدق أن العناصر الشابة التي ستتولى المسئولية ستكون أفضل العناصر في المجتمع؟ فالآلية التي أنتجت القيادات محدودة الكفاءة هي نفسها التي ستختار من بين الشباب من يتولى المناصب.
ربما يكون مفهوم الجيل الشاب الذي أدارت به بعض القوى معاركها السياسية قد استنفذ أغراضه. فالشباب مرحلة مؤقتة تترك مكانها سريعاً للكهولة والشيخوخة، ولا تصلح قاعدة لبناء تيار سياسي. إذا أسس شباب اليوم حزباً لهم، ماذا سيفعلون إذن بعد عشرة سنوات. هل يتركون الحزب ويؤسسون حزباً للكهول؟ حديث الأجيال كان له بعض الفائدة في البداية لأنه لفت النظر إلى أحد نتائج الواضحة لجمود وانغلاق النظام السياسي في مصر. لقد استطاع بالفعل أن يثير الأشواق للتغيير. ولكن أن ننسى أن شيخوخة القيادات في مصر هي مجرد عرض ونتيجة وليست هي أصل المشكلة فنحن بذلك نكون قد أردنا أن يرحل الشيوخ الذين ظلوا عشرين سنة في الحكم لكي يأتي شباب تحت الأربعين لكي يظل ثلاثين أو أربعين سنة في مقاعده. من يدرى إلى أي مدى سينجح الطب في إطالة الأعمار؟ ألا يؤكد بعض العلماء أن توقع حياة المواطن الأوروبي سيبلغ مائة عام في المرحلة القادمة. في هذه الحالة سيكون أمامنا اختيارين: أما أن نناضل ضد الطب والأطباء الذين يساهمون في زيادة توقع الحياة، أو أن نناضل من أجل تأسيس آليات شفافة ومفتوحة في اختيار القيادات، آليات تعتمد على مبدأ اختيار الأكفأ بعض النظر عن عمره. علنا نتذكر أن الخصم الأساسي للتغيير في مصر ليس الشيوخ الذين يحتلون المقاعد، ولكن الآليات التي سمحت لهم بالاستمرار فيها لسنوات طويلة بل لعقود.
د. سامر سليمان