الرئيس الصموت والمرشح الذي – يا للعجب – يتكلم!

البرادعي لم يأت بجديد. أنا من زمان دعوت إلى الإصلاح الدستوري، ودعوت إلى الرقابة الدولية على الانتخابات، وناديت بالدولة المدنية وفعلت كيت وكيت. هكذا كتب الدكتور عبد المنعم سعيد في مقالته الثانية عن ترشح الدكتور محمد البرادعي في أهرام الاثنين الماضي. وهو في ذلك محق. لقد كانت كتاباته جسورة وكانت محل اهتمام أي قارئ مهتم بالشأن العام. فهي محفزة على التفكير، ومشجعة على رد الفعل، الإيجابي أو السلبي. لذلك لم أكن أفوت أبداً أهرام الاثنين. وعندما أمسك بأهرام الاثنين كنت أطوي سريعاً الصفحات الأولى الفارغة من القيمة لكي أصل إلى مقالة عبد المنعم سعيد فأقرأها مصحوبة بفنجان قهوة وسيجارة كي تكتمل المتعة.

المشكلة أن مقالات عبد المنعم سعيد في المرحلة الأخيرة، خاصة بعد اعتلائه مؤسسة الأهرام، أصبحت تكتب على عجل، وباتت شحيحة الفكر، مفتقدة للجسارة. لكن الصدمة الكبيرة حدثت عندما قرأ الناس مقالته الأولى عن ترشح الدكتور محمد البرادعي منذ حوالي أسبوعين، تلك التي ختمها بعبارة أقل ما يقال عنها أنها مفتقدة للياقة. فقد وجه كلامه للبرادعي قائلاً.. “إن إدارة دولة غير إدارة وكالة”، في إشارة بالطبع إلى وكالة الطاقة الذرية، وفي تلميح للفظ “وكالة” كما نستخدمه في الحياة اليومية (وكالة من غير بواب مثلاً).
هذه المقالة الأولى سيئة الذكر، أعقبتها مقالة يوم الاثنين الماضي التي حاول فيها سعيد محو بعض أثار الصدمة التي أحدثتها مقالته الأولى. فقال أنه يتفق مع البرادعي في كل ما طرحه، بل وأنه سبق البرادعي في الدعوة لهذه المطالب. ولكن السؤال بالنسبة له هو ما الجديد إذن الذي جاء به البرادعي؟ فالبرادعي وفقاً لسعيد قد أشار فقط إلى عموميات، بينما الشيطان يكمن في التفاصيل.

الحقيقة أن كلام سعيد غريب حقاً. البرادعي ليس في منافسة مع سعيد على رئاسة الأهرام حتى يقارن نفسه به ويعطي لنفسه الأسبقية في طرح الأفكار والمطالب. البرادعي في منافسة – على الأقل نظرية – على رئاسة الدولة. فمن أراد المقارنة، فعليه أن يقارن البرادعي بمبارك. أنت يا دكتور سعيد تلوم البرادعي في اقتصاره على العموميات، فهل سبق للرئيس مبارك أن ذكر هذه العموميات؟ البرادعي تحدث بصراحة عن اثنين من أهم مشاكل مصر اليوم وهما الفقر والتوتر الطائفي. فهل تحدث الرئيس مبارك مرة واحة عن هذه المشاكل بصراحة.

الحقيقة المهمة أن طريقة الرئيس مبارك في الحكم تقوم على الصمت. الدنيا تقوم وتقعد وهو صامت. المحلة تشتعل وهو صامت، الاعتداءات الطائفية تندلع وهو صامت، الناس تهرش في دماغها ليل نهار بحثاً عن مستقبل الرئاسة في مصر وهو صامت. هو عموماً لا يتكلم إلا بعد حين، وغالباً ما يطرق الموضوع فقط بالتلميح وسط خطاب خطه له أحد الصحفيين ليتحدث فيه عن انجازات البنية الأساسية من تلفونات ومجاري وكباري. الرئيس مبارك يا سادة يكاد لا يتكلم في السياسة إلا مع الإعلام الأجنبي أو مع قزم من التلفزيون المصري أو الصحافة “القومية” لا يجرؤ أن يوجه له أي سؤال في العضم. الرئيس مبارك صامت معظم الوقت. هو بالتأكيد أقل حكام مصر الحديثة من حيث الكلام.

لماذا لا يتكلم الرئيس؟ لأن ذلك جزء من الهالة الإلهية المرسومة له. فالإله لا يتكلم إلا نادراً، وغالباً من خلال وسيط أو رسول. الصمت كان دائما هو السلاح الذي يلوذ به مبارك، وهو الذي جنن المعارضة في مصر. ما أقسى أن تتحدث لسلطة تتجاهل وجودك ذاته. “اقتلوهم بالصمت”.. هذه كانت إستراتيجية مبارك في البقاء في الحكم.

أهم تحدي ألقى به البرادعي في مواجة الرئيس ليس فقط أن هناك من يصلح لتولى الرئاسة بدلاً منه، ولكن أن هذا الشخص – ويا للعجب – يتكلم. نعم.. الصمت ليس من المواصفات الحتمية لمن يحتل كرسي الرئاسة. وأكيد سيكون لنا حظ في يوم الأيام أن يحكمنا رئيس يتكلم.

من يحب مصر ويريد لها الخير عليه أن يجاهد بكل السبل لكي يجعل الرئيس حسني مبارك يتكلم. فليحدثنا في القضايا التي طرقها البرادعي، فليكلمنا عن العشوائيات والفقر، فليشرحنا تصوره عن الحريات الدينية وعن كيفية حل الصراع الطائفي، فليحدثنا عن مستقبل التعليم. تكلم يا ريس.. كلنا آذان صاغية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *