السياسة أولا وأخيراً سامر سليمان

لابديل عن الصراحة المطلقة في الحديث عن أزمة التنمية في مصر إذا كنا نريد أن نعبر هذه الأزمة ونصل إلى بر الأمان. لن أفيض في التأكيد على أننا نمر بأزمة اقتصادية واجتماعية شديدة الوطأة تعبر عن نفسها في كساد وبطالة وتضخم وفقر ويأس وشيخوخة مبكرة، إلى أخره. أنا افترض أن هناك أزمة خانقة تضرب المجتمع وسوف ابني على هذه الفرضية نتيجة أطرحها للنقاش وهي أن الفشل المصري يجد تفسيره في السياسة وليس في الاقتصاد. لقد وضح الأن أن مصر قد فشلت طوال أكثر من نصف قرن في انجاز التنمية والتحديث التي حلمت بهما أجيال متعاقبة من المثقفين المصريين بداية من الشيخ رفاعة الطهطاوي ومروراً بسلامة موسى ووصولاً إلى جمال حمدان، وغيرهم. وقد تأكد هذا الفشل الأن بعد أن وصل الاصلاح الاقتصادي الذي طبقته مصر منذ 1991 إلى نهايته بدون أن تصبح مصر نمراً على النيل كما قيل في أوائل التسعينات.

مع كل القلق والضبابية والرهبة التي عاشها الكثير من المثقفين في التسعينات خوفاً على مصير الوطن، فإن البعض كان يتسلح بالأمل ويكذب شكوكه ويقول لنفسه أحياناً “ربما كانت الحكومة على حق، ربما يؤدي بنا الإصلاح الاقتصادي إلى الانطلاق بقوة للأمام فنصبح أنذاك نمراً على النيل. ولما لا؟ لقد فعلتها دول أخرى مثل كوريا وأندونيسيا وشيلي، وكلها كانت تقودها حكومات ديكتاتورية. فلننتظر قليلاً لنرى ما يحدث، وربما كان غياب الديمقراطية في هذه الفترة ثمناً مقبولاً للانطلاق الاقتصادي إلى الأمام الذي سوف يؤدي حتماً إلى الانتقال من المجال الاقتصادي للمجال السياسي من أجل استكمال عملية الإصلاح.” هكذا سادت نظرية الاقتصاد أولاً، أو نظرية أن الاصلاح السياسي لابد أن يسبقه اصلاح اقتصادي ناجح حتى لا ينفرط عقد المجتمع وتنفلت الأمور إلى المجهول. هذه النظرية سادت في مصر بفضل توفر تجارب مجتمعات أخرى سارت على نفس النهج وحققت التنمية الاقتصادية بالعنف قبل أن تتحول إلى الديمقراطية، كما سادت أيضاً بفضل مجموعة من المفكرين في الخارج (على رأسهم بيتر ايفانز) استطاعوا أن يقدموا تفسيراً معقولاً لتجربة النمور الأسيوية تتلخص في أن العامل الأساسي الذي ساعد على النجاح هناك يكمن في وجود دول قوية ومستقلة بها استطاعت أن تقود عملية التنمية بمهارة وكفائة. والدولة القوية هنا ليست بالمعنى الاشتراكي الذي يؤدي بها إلى الانخراط في الإنتاج ولكنها قوية بالمعنى الليبرالي الذي يتيح لها أن تطبق السياسات الليبرالية بقوة وبكفائة تستطيع بها أن تنجز التنيمة المستدامة.
لقد حققت هذه النظرية سيادة تامة منذ منتصف التسعينات خاصة عندما تبناها البنك الدولي وكف تماماً عن الهجوم الأعمى على دور الدولة وتجلى ذلك في تقريره عن التنمية في العالم عام 1997 “الدولة في عالم متغير” والذي كان أحد مستشاريه بيتر ايفانز نفسه. وكانت دروس ذلك التقرير، الذي يؤسس للفكر الاقتصادي العملي في العالم، أنه لا يكفي أن تطبق سياسيات ليبرالية في الاقتصاد حتى تحقق التنمية، بل يجب أن يكون لك مؤسسات قوية وكفئة تستطيع بمقتضاها أن تنفذ وتٌفعل قواعد اللعبة الاقتصادية. هكذا يتحدث البنك الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى عن “الحكم الجيد” وهو مفهوم لا ينطبق أساساً على طبيعة الحكومة (ماذا إذا كانت ديمقراطية أم لا) ولكنه ينطبق على الدولة (ما إذا كانت قوية وكفء أم لا).

هكذا تأسس عقد غير مكتوب بين المؤسسات الدولية والكثير من الحكومات في العالم العربي والعالم الثالث كان مضمونه أن تلك المؤسسات سوف تتسامح مع غياب الديمقراطية ولكنها تصر على الحكم الجيد. وهكذا أيضاً تأسس عقد غير مكتوب بين النخبة والحكومة كان مفاده أن تضحي النخبة بالحرية السياسية حتى يعبر المجتمع عنق الزجاجة. وقد حاولت أقلية في مصر أن تنتقد هذه المعادلة، واجتهدت لاثبات أن الديمقراطية لازمة لانجاح الاصلاح الاقتصادي، ولكن خفتت أصواتها بشدة حينما كان يرد عليهم البعض الأخر بالقول: “ماذا عن شيلي، ماذا عن أندونيسيا، ماذا عن كوريا؟ ألم يحققوا التنمية بقيادة حكومات عسكرية متوحشة عذبت وخطفت واغتالت الالاف من شعوبها؟ وعلى أي حال الحكومة في مصر بعيدة تماماً عن هذا المستوى من العنف. المهم الأن هو الاصلاح المؤسسي وليس الاصلاح السياسي.” كان هذا الرد بليغاً إلى الحد الذي تبنته بالكامل أغلبية النخبة علناً أو سراً.

ولكن السؤال الذي لم تجب عليه نظرية الدولة القوية أو نظرية الحكم الجيد هو لماذا نجحت بعض الحكومات غير الديمقراطية مثل شيلي في القيام بالإصلاح المؤسسي اللازم لعملية التنمية الاقتصادية في مجال الانتاج والتصدير، وفشلت حكومات أخرى، غير ديمقراطية أيضاً، في القيام بهذه المهمة. لدي هنا تفسير أطرحه للنقاش وهو أن الحكومات غير الديمقراطية في حالة النمور الأسيوية أو في حالة شيلي جاءت إلى الحكم بعد صراع اجتماعي محتدم تم حله بالسلاح. لقد عرفت معظم هذه البلدان حركات يسارية (شيلي) أو شيوعية (اندونيسيا مثلاً) شديدة البأس، استطاعت أن تصل بالفعل إلى السلطة أو كانت قاب قوسين أو أدنى للوصول إليها. لذلك وصل الصراع الاجتماعي إلى أشده، الأمر الذي أدي إلى تراص المجتمع في معسكرين كبيرين وحسم المسألة بالسلاح وهزيمة ساحقة لأحد المعسكرين، مما فتح الطريق لتطبيق عملية تنمية رأسمالية عنيفة بالحديد والنار. إذن فديكتاتوريات دول النمور، برغم سلطويتها، كان لها أرضية اجتماعية تتمثل في تحالف اجتماعي شديد الصلابة بين الطبقات العليا وبعض قطاعات الطبقة الوسطى يتأسس على حالة من الذعر من البديل الشيوعي أو اليساري، مما دعم جهود الحكومات في تطبيق اصلاح مؤسسي راديكالي.

والحقيقة أن التحالف الاجتماعي الصلب هو الشرط الضروري للقيام بعملية اصلاح مؤسسي لأن هذا الاصلاح يؤدي حتماً إلى الاضرار بالمصالح المشروعة أو غير المشروعة لبعض قطاعات المجمتع، مما يؤدي إلى نمو العداء للنظام من جانب الذين يخسرون مواقع أو مكاسب. ولا تستطيع الحكومة في هذه الحالة فرض الاصلاحات إلا إذا كانت مدعومة من تحالف اجتماعي تستند عليه في انقضاضها اليومي على مؤسسات الدولة لاصلاحها.

ولكن الوضع في مصر مختلف تماماً. فلم يصل الصراع الاجتماعي أبداً إلى درجة الاحتدام الذي عرفته النمور، كما أن تراث الدولة في مصر لا يسمح بمستوى العنف الذي قامت به حكومات تلك النمور، فهي لا تقبل ولا تستطيع أن تطلق النار على المظاهرات السلمية في الشارع، أو أن تسحق النقابات بالدبابات. ربما يرجع ذلك إلى أن المجتمع المصري يتميز بقدر كبير من الوداعة والسلام. إذن فالحلول الراديكالية الدموية ليست مطروحة في مصر. المتاح حلول أخرى يستطيع المجتمع بمقتضاها أن يحل من أزماته وتناقضاته بشكل سلمي. وهنا لا داعي على الاطلاق لإعادة اختراع الأشياء. فالاختراع متوفر بشدة في السوق العالمي وليس علينا إلا أن نستورده ونطوعه لظروفنا. هذا الاختراع هوالنظام الديمقراطي الذي استطاعت مجتمعات كثيرة أن تستخدمه لحل صراعاتها وتناقضاتها الاجتماعية بشكل سلمي وبهذا تنطلق إلى الأمام.

لقد أخطأ البنك الدولي بشدة في حق الكثير من الشعوب حينما تبنى وروج لفكرة أن الاصلاح المؤسسي يمكن أن يتم في كل المجتمعات بدون اصلاح سياسي وبدون ديمقراطية، والحالة المصرية والعربية تثبت ذلك بكل جلاء. لأن الحكومات لا يمكن أن تنطلق في عملية اصلاح حقيقة بدون أن تحظى أما بدعم قوي من فئات معينة أو بشرعية صلبة تستطيع بها أن تصد الهجوم المضاد من القوى التي ستخسر من الاصلاح. لقد أخطاً البنك الدولي أيضاً حين اختزل النقاش حول الديمقراطية إلى مدى فائدتها للاصلاح الاقتصادي، فإذا لم تكن ذات فائدة لذلك الاصلاح فلا داعي لها. وهذا فيه عدم تقدير للديمقراطية كقيمة في حد ذاتها، لأن الانسان لا يبحث فقط عن الخبز ولكنه يتوق أيضاً إلى الكرامة، بل أن تطلع الأنسان إلى الكرامة يدفعه في بعض الأحيان إلى التضحية ليس فقط بالخبز ولكن أيضاً بنفسه دفاعاً عن كرامته أو عن كرامة أسرته ووطنه بل وكرامة الانسانية كلها. أليس بعض مما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات أنه حيوان سياسي. هل شاهد أحداً قط حماراً قام بتأسيس حزب سياسي للدفاع عن حقوق الحمير الذين يلقون أسوأ معاملة في مصر، هل عرفنا حماراً قط قام بمظاهرة للتعبير عن ألمه من الظلم الواقع عليه. بالطبع لا. فحينما تطلب الأمر الدفاع عن حقوق الحمير جاءت المبادرة من بني البشر في شكل جمعية للرفق بالحمير كان من بين مؤسسيها الفنانة الجميلة نادية لطفي.

من المرجح أن قضية الديمقراطية في مصر سوف تكتسب أنصاراً كثيرين وسوف تعود على أجندة المطالب الشعبية للمرة الأولي منذ موجة 1954 التي حاول الرئيس الراحل محمد نجيب (رحمه الله) أن يستجيب لها ولكنه عٌزل، وموجة 1968-1972 التي لم يستجب لها استجابة كافية الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات. وإذا كان للديمقراطية أن تعود بقوة على الأجندة فذلك لأنه من من المستحيل أن نقوم باصلاح اقتصادي بدون اصلاح مؤسسي، وأن نقوم بإصلاح مؤسسي بدون تحالف اجتماعي يساند هذا الاصلاح. وهذا التحالف لا يمكن بنائه إلا بالمجال السياسي وفي المجال السياسي، أي بالوصول إلى حلول وسط تستطيع أن تحظى بدعم أغلبية معقولة من الشعب المصري. لذلك فإلاصلاح السياسي أصبح الشرط الأساسي لانجاز أي عملية اصلاح اقتصادي، بغض النظر عن شكل ومضمون هذا الاصلاح (أكان في صوب اقتصاد ليبرالي، ناصري، اشتراكي، اسلامي…الخ). لأنه لن يقدر له أي حظ من النجاح دون أن يتأسس على قواعد صلبة من المؤسسات السياسية ومن النشطاء السياسين الذين سوف يحملون على أكتافهم مصالح وهموم فئات المجتمع. إذا كان أي مجتمع معاصر لا يستطيع الاستغناء عن الأطباء أو المحامين أو الصحفيين أو العمال أو الفلاحين…الخ، فهو أيضاً ليس بإمكانه أن يزدهر بدون نشطاء سياسيين منتشرين في كل بقعة من أرجاء الوطن. إذا كنا نريد أن نعرف لماذا فشلنا في الاصلاح الاقتصادي والمؤسسي علينا أن نحصي عدد النشطاء السياسيين في مصر، وسوف نجد أن لدينا أقل النسب في العالم. لا بديل عن تنشيط السياسة في مصر بواسطة اصلاح شامل حتى نخرج من عنق الزجاجة. المجتمعات لا يمكن أن تعيش بدون السياسة. فالانسان حيوان سياسي كما يقولون، فإذا رفعنا منه صفة السياسي ماذا يتبقى منه غيرالصفة الأخرى؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *