مرحلة جديدة من الاقتصاد السياسي لسياستنا الخارجية

التربة مهيأه الأن لتحول هام في السياسة الخارجية المصرية لأن الاقتصاد السياسي لتلك السياسة يتغير بسرعة عما كان عليه منذ الخمسينات ويبتعد كثيراً عن المعادلة الناصرية التي حكمت السياسة الخارجية المصرية طويلاً. كيف؟ لقد أدرك الرئيس عبد الناصر بذكاء شديد أن الموارد الداخلية لا تكفي مشروعاته في التحديث والتصنيع. لذلك ذهب غرباً في البداية ثم اتجه شرقاً عندما فهم أن الدول الغربية مترددة في تمويل مشروعه التحديثي. هكذا جائت تحالفات عبد الناصر مع المعسكر الشيوعي بالرغم أنه لم يكن يميل على الإطلاق للشيوعية وهكذا أقنع هذه الكتلة أن تعطي لمصر أعلى نسبة مساعدات كانت تمنحها لدولة من العالم الثالث.
والمفارقة أنه بالرغم من هذه التحالفات استطاع عبد الناصر أن يحافظ على نصيب معقول من مساعدات المعسكر الأخر, الولايات المتحدة وحلفائها. وإذا كانت مصر قد حصلت على كل هذه المساعدات فلأنها ذات تأثير كبير على محيطها الإقليمي: إن ما يحدث في مصر لا يخص مصر وحدها ولكن يمتد تأثيره إلى دول أخرى.
هذه إذن المعادلة الناصرية في السياسة الخارجية: الاستثمار في السياسة الخارجية ليس مضيعة للوقت ولكنه يأتي بفوائد اقتصادية مباشرة. لقد ذهبت الكثير من “الثوابت” الناصرية أدراج الرياح. ولكن ظل منها هذه المعادلة: النخبة المصرية تحتاج إلى إقامة تحالفات دولية لتمويل ودعم مشروعاتها الداخلية. لم ينقلب الرئيس السادات على هذه المعادلة، ولكنه عدل اتجاه التحالفات من الشرق إلى الغرب، ومن الاتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة. هكذا أصبحت مصر ثاني دولة تحصل على المساعدات الأمريكية بعد اسرئيل، هذا بخلاف المساعدات التي تأتي من بقية الدول الصناعية. إذن في ظل الاشتراكية أو في ظل اقتصاد السوق كانت مصر تعتمد بشكل كبير على المساعدات والمعونات الخارجية.

نحن أمام مفارقة غريبة: التعاملات الاقتصادية لجمهورية مصر العربية مع العالم تقل، وتشابكاتها السياسية معه لا يصيبها أي انخفاض. نسبة تجارة مصر إلى الدخل القومي مع العالم الخارجي تقل ولكن نسبة تفاعل نخبتها مع الذي يحدث خارج مصر لا تتأثر. المشاكل والتحديات الاقتصادية تزداد والحديث عن “صراع الحضارات” لا يهدأ. الدين العام يتزايد بوتيرة سريعة ولكن الموضوع الأساسي الذي يثير حماسة النخبة المصرية هو العراق وفلسطين. ماذا يحدث؟ أليس من طبيعة الانسان أن يفكر أولاً في انقاذ بيته وأولاده من الحريق الذي شب في منزله قبل أن يفكر في بيوت وأولاد الجيران. ألا يقولون في التعليمات لركاب الطائرات أنه في حالة تعرض الطائرة لمشكلة يجب أن يهتم الأباء والأمهات بوضع كمامة الاكسوجين لأنفسهم أولاً قبل أن يضعوها للأطفال، لأنك لابد وأن تساعد نفسك حتى تستطيع أن تساعد الأخرين؟

المجتمعات كلها تهتم بما يحدث خارجها، لأن النخب تعرف جيداً أن ما يحدث في الخارج سوف يؤثر حتماً على الأوضاع الداخلية. وهذا الاهتمام قد يتحول في بعض الأحيان إلى انفعال وتضامن انساني مع شعوب أخرى تعاني. وقد رأينا على شاشات التلفزيون الملايين من الأوروبيين الذي خرجوا ضد الغزو الأمريكي للعراق. ولكن مقدار الاهتمام دائماً ما يمثل موضوعاً للخلاف. خذ على سبيل المثال النقاش الذي كان يدور دائماً داخل النخبة الأمريكية حول ما إذا كان من مصلحة الولايات المتحدة أن تقلل من انخراطها في القضايا الدولية أم يجب عليها أن تزيد منه. لكن يظل الاهتمام الأساسي للنخبة وللناس هناك بمشاكلها الداخلية. ولكن في مصر تأخذ السياسة الخارجية أهمية استثنائية إلى الحد الذي غابت فيه الفواصل ما بين القضايا الداخلية والقضايا الخارجية. من الطبيعي جداً أن يكون اهتمام النخبة المصرية كبير بالسياسية الخارجية: نحن لسنا بلدأ مثل نيوزيلاندا حيث يمكن أن ترفل النخبة هناك في نعيم العزلة النسبية عما يحدث في الخارج، نحن نعيش في منطقة ملتهبة يمكن أن تقذفنا بالحمم في أي وقت. ولكن يظل أن النقاش العام الذي يدور في مصر حول الخارج يفوق ما يحصل عليه النقاش حول الداخل. لماذا؟

الحقيقة أن الاهتمام الفائق بالسياسة الخارجية هو ميراث ناصري. لقد أدرك الرئيس عبد الناصر مبكراً عدم كفاية الموارد المحلية المصرية لتمويل خططه للتحديث والتصنيع ولإقامة جيش قوي. هكذا جائت تحالفاته مع المعسكر الشيوعي مع أنه كان لا يميل إلى الشيوعية. وهكذا أقنع ناصر هذا المعسكر بتقديم مساعدات اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية هامة لمصر، بل وأنه نجح أيضاً في الحفاظ على نسبة هامة من المساعدات الغربية في الخمسينات وحتى هزيمة 1967. لقد ذهبت الكثير من “الثوابت” الناصرية أدراج الرياح. ولكن ظل منها معادلة هامة: النخبة المصرية تحتاج إلى إقامة تحالفات دولية لتمويل ودعم مشروعاتها الداخلية. لم ينقلب الرئيس السادات على هذه المعادلة، ولكنه عدل اتجاه التحالفات من الشرق إلى الغرب، ومن الاتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة. هكذا أصبحت مصر ثاني دولة تحصل على المساعدات الأمريكية بعد اسرئيل، هذا بخلاف المساعدات التي تأتي من بقية الدول الصناعية. إذن في ظل الاشتراكية أو في ظل اقتصاد السوق كانت مصر تعتمد بشكل كبير على المساعدات والمعونات الخارجية.

هذه المعادلة الناصرية تتغير الأن بشكل جوهري. هناك بعض الأرقام تستحق التأمل: لقد انخفض نصيب مصر من المعونات المقدمة للعالم الثالث من 14,4% عام 1990 إلى 3,3% عام 1995. كما انخفضت مساهمة المعونات الخارجية في الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 14% عام 1991 إلى حوالي 2% عام 2000. ولا يزال الاتجاه النزولي مستمر. المشكلة ليست أن المساعدات تقل من حيث الحجم ولكن أنها تقل بالنسبة لحجم الاقتصاد، لأن الاقتصاد ينمو وعدد السكان يزيد في الوقت الذي لا تزيد فيه المعونات. هذا يعني أن تأثير المعونات أصبح أقل من ذي قبل. نفس الاتجاه يصيب تحويلات العامليين المصريين في الخارج التي انخفضت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي من إلى.  الاتجاه نفسه ينطبق على دخول البترول وقناة السويس. كما ينطبق على نسبة تجارتنا مع العالم الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي، كما ينطبق أيضاً على نسبة التدفقات الاستثمارية. كل هذا يصب في حقيقة واضحة: الدخول التي تأتي من الخارج والتي يسميها الدكتور حازم الببلاوي بالدخول الريعية، في تناقص مستمر. نحن نعتمد أكثر فأكثر على مواردنا الداخلية كما نتفاعل اقتصادياً مع العالم أقل فأقل. وهذا يعني أن المعادلة الناصرية التي تتأسس على استثمار أهمية مصر الاستراتيجية لتعبئة الموارد الخارجية أخذة في التأكل. الدور الاقليمي لمصر لم يعد يثمر عن فوائد اقتصادية كبيرة.

إن الاقتصاد السياسي لمصر في حالة تحول كبير، وربما يفسر ذلك جزئياً الأزمة التي نمر بها: نحن في مرحلة مخاض، هناك نمط من التفاعلات مع العالم الخارجي يموت ويفسح المجال أمام نمط جديد لم تتحدد معالمه بعد ولم تحدد النخبة منه موقفاً بعد.
لماذا إذن لم تنعكس هذه التحولات على النقاش السياسي في مصر؟ لماذا تهتم النخبة بالجدل حول جدوى العمليات الاستشهادية أكثر من أهتمامها بالنقاش حول الدين العام المتزايد في مصر. هناك أسباب متعددة. أولها أن الأمر يتطلب بعض الوقت حتى “تهضم” النخبة تلك التحولات. ثانيها أن المسكوت عنه في النقاش العام في مصر كبير: هناك حذر شديد في التعرض للقضايا الداخلية الخلافية الحادة مثل توزيع الدخل القومي والاصلاح السياسي، مما يدفع بالنقاش العام إلى الانغماس التام في موضوعات الهوية والمسائل القومية. المسألة بسيطة: يمكنك أن تؤيد الخط الواقعي لأبو مازن، ويمكنك أن تؤيد الخط الراديكالي لحماس والجهاد، كل ذلك مقبول، ولكن الصعب هو التعرض بشكل مباشر وصريح للمسائل الداخلية. بعبارة شديدة الصراحة النقاش العام حول فلسطين والعراق هو “تفريغ” أكثر منه نقاش حول السياسة الخارجية المصرية. إذن المحورية غير العادية التي لا تزال تحتلها القضايا الخارجية في مصر هي ظاهرة لها أسبابها السياسية الداخلية. لقد هزمت السياسة الاقتصاد في مصر.

ولكن تاريخ الدولة المصرية الحديثة يبين أن الاقتصاد له كلمة عليا في اختيارات الدولة الاستراتيجية. معظم التحولات الاستراتيجية التي قامت بها الدولة في مصر كانت مرتبطة بتعبئة الموارد المادية، أي المال. لقد أسس محمد على دولته الحديثة بعد أن قضى على نظام الالتزام وطبق نظام الاحتكار الذي أجهز على المماليك ووضع في يد الدولة موارد كبيرة. كما تأسست تجربة تحديث اسماعيل على توفر موارد كبيرة جراء ارتفاع اسعار القطن المصري مع اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية. وفي القرن العشرين، قرر عبد الناصر تأميم قناة السويس بعد أن رفض البنك الدولي تمويل السد العالي، كما توجه شرقاً من أجل الحصول على معونات عسكرية واقتصادية وتكنولوجية. الأمر ينطبق أيضاً على السادات الذي ارتبط تحوله صوب الغرب إلى حد كبير برغبته في جذب الاستثمارات والمعونات من هناك. من المشروع أن يصرخ البعض بأنه من التبسيط الشديد تضخيم دور مالية الدولة في التحولات الاستراتيجية التي عرفتها مصر إلى هذا الحد، لأن هناك العديد من العوامل الأخرى الاستراتيجية والثفافية بل والنفسية. ولكن من الخطاً أيضاً أهمال الأهمية الفائقة التي تحتلها قضية تعبئة الموارد في تفسير تحولات النخبة في مصر. وإلا سوف نسقط في التحليل النفسي للسياسة الذي يعتقد أن تفسير التحولات التي عرفتها مصر يكمن في نفسية هذا الحاكم أو ذاك. والأمر ليس بهذه البساطة.
المراد باختصار أن تحول الدولة المصرية المتزايد من الاعتماد الاقتصادي الكبير على الخارج إلى الاعتماد أكثر فأكثر على الداخل يفتح الطريق أمام تحولات هامة في الاختيارات الاستراتيجية للنخبة المصرية ورؤيتها للعلاقة ما بين الداخل والخارج. الاختيار الذي سوف تسفر عنه هذه التحولات ما زال قيد التشكل، وهو أمر صعب التنبؤ به الأن. لأن الاختيارات دائماً تكون بين بدائل. فإذا كانت مصر تحصل على فوائد اقتصادية متناقصة من سياستها الخارجية فإن التعامل مع هذه الحقيقة يمكن أن يتخذ عدة أشكال منها على سبيل التركيز على قضايا الداخل أكثر من الخارج، أو تعديل العلاقة مع الخارج من استثمار دور مصر الاقليمي للحصول على مساعدات اقتصادية إلى محاولة إقامة شراكة مع العالم تركز على التجارة والاستثمار أكثر من المساعدات، أو التوجه جنوباً إلى السودان وأفريقيا، أو التوجه شرقاً إلى الدول العربية لتكوين تكتل اقتصادي جديد. البدائل المطروحة عديدة ولكن نقطة البداية هي التعرف على الواقع بدقة وإجراء حوار موضوعي وهادئ حول البديل الأمثل. هذا هو دور المثقفين المصريين. ولكن من المؤكد أننا نشهد تحول هام في الاقتصاد السياسي للدولة المصرية يجب التنبه له والتعامل معه. لقد انتهت المعادلة الناصرية في السياسة الخارجية لأن الواقع الدولي والاقليمي تغير، ونحن نحتاج إلى معادلة جديدة، وموضوع النقاش الأن ليس فقط السياسة الخارجية من حيث “الكيف”، ولكن أيضاً من حيث “الكم”، القضية الأن ليس فقط تحديد موقفنا مما يحدث خارج حدودنا ولكن أيضاً تعيين الحجم الامثل الذي نعطيه من اهتمامنا وطاقتنا لما يحدث في الخارج.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *