مصر بين الثابت والمتحول

“أسوأ شيء يحدث في مصر أنه لا يحدث شيء على الإطلاق”. هكذا قال أحد الصحفيين الأجانب تعليقاً على الأحوال في المحروسة. بعبارة أخرى أن مصيبة مصر لا تكمن في أن الناس هنا يسيرون في طريق خاطيء ولكن تكمن في أنهم لا يسيرون على الإطلاق. أنه الموات إذن. ليس هناك حكم أشد قسوة على مجتمع من اعتباره أنه مجتمع راكد لا ينبض بالتغيير، أي بالحياة. هل هناك حياة دون تغيير؟ وهل هناك موت دون ثبات؟
إنه حكم قاسي فعلاً ولكن هل هو مجحف؟ هل مصر فعلاً لا تتغير، أم أن هذا التغيير يستعصي على الرؤية المباشرة. هذا الذي قال أن لا شيء يحدث في مصر- هل فشل في رؤية المتحول في البلاد؟ هل اكتفى بالنظر إلى الطبقة السطحية ولم ينقب كثيراً ويغوص في الأعماق حتى يلمس التغيير الذي يتخفى خلف برواز الثبات السياسي المصطنع. نحن نعيش فعلاً في ظل ثبات مؤسسي سياسي منذ عدة عقود.

وليس هناك عنوان يلخص هذا الثبات أكثر من حقيقة أن دستور مصر الذي صيغ عام 1971 لم تمسسه أي يد منذ بعض التعديلات الطفيفة الذي أدخلها عليه السادات لتأكيد الطابع الديني للدولة (الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع) هذا بالإضافة إلى تعديل المادة التي تنص على أن رئيس الجمهورية لا يحكم إلا فترتين فقط، يجب بعدها أن يخلي مكتبه لوافد جديد. منذ تلك التعديلات صمد الدستور المصري أمام كل التحولات الكبرى في العالم، من إنهيار امبراطوريات (الاتحاد السوفييتي) وصعود قوى أخرى (الصين مثلاً) ومن تحولات هائلة في مجال تطبيقات العلم (في مجال الجينات مثلا)، ومن تحولات أيضاً هائلة في إيقاع انتقال الأفكار والمعلومات، ومن تغيرات هائلة على المستوى العالمي في تعريف دور الدولة. هكذا يظل الدستور يردد دون كلل أن “مصر دولة اشتراكية ديمقراطية”.

لقد أنقذت المحكمة الدستورية الدستور المصري حينما رفضت منذ عدة سنوات دعوى عدم دستورية قوانين الخصخصة بإعتبار أنها تخالف الطبيعة الاشتراكية الديمقراطية للنظام السياسي المصري. رأت المحكمة أنه من حق النظام السياسي أن يجدد في الوسائل التي يسعى بها إلى تحقيق مباديء وأهداف الاشتراكية الديمقراطية. أي أن العدالة الاجتماعية يمكن أن تتحقق في ظل هيمنة القطاع الخاص على النشاط الاقتصادي وفي ظل الخصخصة. لقد أنقذت المحكمة الدستورية الدستور المصري حينما قالت أنه لا يتعارض مع السياسات الاقتصادية المطبقة. لأن لو كانت المحكمة قد حكمت بعدم دستورية الخصخصة لكان النظام السياسي المصري سيلجأ غالباً إلى ما حوال التملص منه طوال أكثر من ربع قرن: تعديل الدستور. ولكن إنقاذ المحكمة الدستورية لدستورها لم يكن إلا إنقاذاً قانونياً. الدستور المصري مثل المريض الذي يعيش في حالة كوما، توقفت كل أعضائه الأساسية ولكنه يحيا مثل النباتات بفضل المعدات الطبية الحديثة التي تقوم بدور الأعضاء الرئيسية للجسم مثل القلب. الدستور المصري مثل نباتات الزينة التي تضفي بعض الخضرة على بيوت المدن الحديثة التي تفتقد للعلاقة مع الطبيعة الخضراء، بخلاف بيوت الفلاحين التي تقع في قلب الخضرة ذاتها الأمر الذي يفسر لماذا لا يلجأ الفلاحون إلي نزع النباتات من الأرض لتثبيتها في غرفهم المعيشية. الدستور المصري هو دستور للزينة ليس إلا، هو مفتقد لأي تربة حقيقية، وظيفته الأساسية تزيين النظام السياسي. وهو العلامة الأساسية على ركود النظام السياسي المصري.

ولكن إذا كان من الخطأ التهوين من شأن أهمية تحول النظام السياسي والدستوري لبلد ما، فإنه من الخطأ أيضاً الاستسلام لفكرة أن المجتمع المصري لا يتغير، فقط لأن هذا التغير لا يظهر على سطح الحياة السياسية والفكرية الرسمية. لقد شهدت مصر انقلابات جذرية في السينما (النجوم الجدد) ، في الموسيقى (الموجة الشبابية الجديدة)، وفي الدعوة الدينية (الدعاة الجدد مثل عمرو خالد ورفاقه). ينحصر الجدل بين المثقفين غالباً في تقييم هذا التغيير، أهو سلبي أم ايجابي. لكنه لا يتعرض إلا قليلاً لقوته وتأثيره الجارف. لا يتسع المكان هنا لضرب العديد من الأمثلة. ربما يكون فيلم “بحب السيما” هو أحد أحدث الظواهر التي تلخص التغيير الجذري الذي تشهده اللغة الفنية والثقافية اليوم. قد يختلف البعض حول القيم التي يدافع عنها الفيلم، لكن من الصعب على أحد أن ينكر حقيقة أنه يمثل ارهاصات لتيار جديد تماماً في السينما المصرية، تيار يحق له أن يكون الوريث الشرعى للثورة التي أدخلها يوسف شاهين في الستينات والسبعينات على السينما المصرية. ذلك التيار الذي من أهم أعلامه العبقري داود عبد السيد.
السؤال الأن هو متى وكيف سوف تعبر هذه التغييرات الفكرية والثقافية والإدراكية عن نفسها في السياسة. الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى كثير من الخيال بقدر ما تحتاج إلى الكثير من التحليل الاجتماعي. ربما يكون على من يريد أن يرى ارهاصات التغيير السياسي القادم في بلادنا أن يترك لبرهة مجال الإعلام المرئي والمسموع لكي يلقي نظرة على ما يمكن أن نسميه “الإعلام الألكتروني”، الانترنت. فالحوار السياسي الأشد صراحة ومباشرة ونفاذاً إلى الحقيقة لا يدور في الصحف ولا في الاذاعة والتلفزيون، ولكن في أروقة المواقع الألكترونية. ذلك لأنه متحرر من القيود التي تكبل الوسائط الاعلامية الأخرى. هناك أدبيات سياسية جديدة تفرض نفسها كل يوم: رسائل قصيرة تنتقل إلى مئات الألاف في وقت قصير، رسائل تحمل أراء سياسية مصاغة باختصار وبسخرية لاذعة. لقد عادت النكتة السياسية لمصر بشكل جديد، مكتوب وليس محكي. لقد عادت البعكوكة، تلك الجريدة الساخرة التي لم نرى مثلها منذ نصف قرن. لا شك أن الانترنت هو الرئة السياسية الوحيدة التي بدأت تتنفس منها بلادنا التي شهدت أطول فترة ركود سياسي في تاريخها الحديث. لا يقلل من أهمية هذا الوسيط أنه وسيط غير ديمقراطي (غير متاح للجميع) حيث أن انتشاره متركز في الطبقات الوسطى وما فوقها، وحيث أنه متركز في الشرائح متوسطة العمر وما تحتها. فعلى أي حال لم يكن للطبقات الشعبية موطيء قدم هام في النظم السياسية التي تعاقبت على مصر. أما بالنسبة لمشكلة تركز هذا الوسيط في شرائح عمرية معينة فهذا لا يقلل من أهميته لأن هذه الشرائح هي المقدر لها أن تعيش عدة عقود أخرى على ضفاف النيل.

مصر ليست راكدة. هناك أشياء تحدث بالفعل هنا وإن كانت رؤيتها تحتاج إلى نظارات معظمة. إن الحكم على الأوضاع في مصر بالاعتماد فقط على المجال السياسي هو حكم لا يأخذ في اعتباره قوانين تحول المجتمعات التي تنص على أن التغييرات الاقتصادية، التكنولوجية والثقافية لابد وأن تلقي بظلالها على المستوى السياسي حتى ولو وبعد حين، حتى ولو كانت طريقة التأثير تتخذ أشكالاً بطيئة ومركبة. هل نكون قد خطأنا إذا قلنا أن ركود السياسة في مصر طوال ربع قرن قد يؤدي في المستقبل القريب إلى تغيير سريع وجارف في لحظات قصيرة؟ مصر التي لم تطور نظامها السياسي طوال ربع قرن، سيكون عليها أن تحرق المراحل وتنجز العمل في بضعة سنوات قليلة حتى يتسق النظام السياسي مع المجتمع الذي يقف عليه. ربما نكون أمام احتمالين: أما أن يطور المجتمع المصري نظامه السياسي، وأما أن يخنق هذا النظام السياسي التحول الذي تنبض به مصر، والذي يكفي الغوص قليلاً تحت المؤسسات الثابتة والخطاب المحنط، لكي نكتشف ارهاصات التحول على أيدي أفراد مبعثرة تعمل بدأب ولكن بصمت وصبر عجيب على إزاحة الثابت في جمهورية مصر العربية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *