في تفسير تمسك الشعب بزعيمه المهزوم

إن خروج “جماهير” شعب ما للمطالبة ببقاء نظام عرض البلاد لهزيمة عسكرية من النوع الثقيل، ولضياع جزء هام من أراضيه هو مفارقة تستدعي التأمل والتفكير. هذا ما حاول أن يقوم به د. شريف يونس، مدرس التاريخ بجامعة حلوان، في كتابه الأخير “الزحف المقدس” الذي صدر عن دار ميريت للنشر، والذي يتعرض بالتحليل لأسباب خروج الناس في مظاهرات حاشدة في يومي التاسع والعاشر من يونيو 1967 لرفض تنحي الرئيس عبد الناصر عن السلطة. لقد دار جدل كثير من قبل حول هذه الأحداث، ولكن السؤال الأساسي المطروح في الجدل لم يكن السؤال الأهم. فهو كان ينصب على مدى عفوية المظاهرات. ففي الوقت الذي أكد فيه منتقدو النظام الناصري على أن المظاهرات كانت مدبرة من أجهزة الدولة، أصر الناصريون وغيرهم على أنها كانت عفوية. خلاصة كتاب شريف يونس هو أن الناس التي خرجت في هذه المظاهرات لم يكن لديها إلا خيار وحيد: الخروج للمطالبة ببقاء عبد الناصر. وإذا كان الناس قد تصرفوا هكذا فذلك ليس من محض الصدفة، ولكنه نتاج عمل دؤوب لنظام سياسي امتلك أجهزة أيديولوجية طاغية منذ عام 1954. هذا الكتاب يمثل جزء من مشروع بحثي أكبر للمؤلف يتعلق بدراسة الإيديولوجية الناصرية.

كيف استطاع عبد الناصر المهزوم عسكرياً أن يحتفظ بالسلطة وأن يجلس على مقعد الحكم مرفوعاً على أعناق الجماهير؟ لتفسير ذلك يعود شريف يونس للوراء قليلاً من أجل دراسة الخطاب السياسي الناصري الذي يميل الكاتب إلى تقدير الحرفية التي صنعته. هذه الحرفية التي تجلت في أعلى درجاتها في خطاب التنحي الذي أمضى كاتب مصر الأسطوري حسنين هيكل ثماني ساعات في كتابته، والذي أدخل عليه عبد الناصر بعض التعديلات التي يكاد الكاتب يعترف أنها عبقرية. وهذا التقدير لحرفية الخطاب السياسي لنظام عبد الناصر يجعل من نقد يونس للناصرية نقداً عميقاً وخلاقاً. فلكي تنتقل من مواجهة خصمك بالنقد بدلاً من القذف، يجب أن تعطيه حقه من التقدير.

الكتاب إذن يدرس الخطاب الأيديولوجي للناصرية وكيف نجح في النهاية في خلق عبادة ناصر. يوضح الكاتب ما يسميه بالنظرية اللاهوتية في الحكم. كان عبد الناصر يحتكر الحكم لأنه المعبر عن أمنيات ورغبات الشعب، بل هو روح هذا الشعب. أمنيات ورغبات الشعب تظل في مستوى اللاوعي حتى يكتشفها الزعيم فيقوم بتحقيقها. والطبيعة اللاهوتية لتلك النظرية تتبدى من العلاقة الخفية التي تربط الشعب بالزعيم. فالنظرية لا تحدد مؤسسات بعينها يستطيع الرئيس بواسطتها أن يستشعر أمنيات الناس. وهذه الطريقة في الرؤية ترفع مرتبة رئيس الجمهورية من موظف عام يختاره الناس لأنهم يعتقدون في كفاءته إلى روح الشعب التي لا يمكن للشعب أن يعيش بدونها. بقراءة هذا الكتاب يمكن للمرء أن يتفهم لماذا يظل الكثيرون في مصر ينتظرون قدوم البطل المخلص. إنه إنجاز كبير لجهاز إيديولوجي طاغي.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *