فشلنا في التنمية بالديكتاتورية، فلماذا لا نجرب الديمقراطية؟

أنت تسير في صحراء قاحلة بلا ماء ولا غذاء مشرفاً على الموت البطيء، وفجأة تنشق الأرض عن “ملاك” يعرض عليك زجاجة ماء مثلجة مصحوبة بوجبة ساخنة لذيذة مقابل شرط واحد وهو أن تصبح عبداً له. فماذا يكون قرارك؟ هل تفضل الموت عطشاً وجوعاً عن التضحية بحريتك أم تقايض حريتك بالماء والغذاء؟ أظن أن أقلية من الشهداء والقديسين هم الذين سيموتون في سبيل الحرية، أما معظمنا فسيفضل البقاء على قيد الحياة حتى ولو في الأسر. إلى هؤلاء القابضين على الحياة سواء حباً فيها أو خوفاً من الموت، إلى هؤلاء المصريين الذين يضعون رزقهم ورزق عيالهم فوق أي اعتبار أخر، إلى هؤلاء الذين يعتقدون أنه لا صوت يجب أن يعلو على صوت معركة التنمية حتى لو تطلب الأمر التضحية بالديمقراطية أهدي لهم هذه المقالة العقلانية الباردة عن العلاقة بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية السياسية.

ودعونا نفترض أن الإنسان السوي والعادي سينشد الطعام والحرية معاً إذا كان من الممكن الجمع بينهماً، وأن معظمنا سيختار التنمية الاقتصادية على حساب الديمقراطية لو كان لابد من الاختيار. هنا يصبح السؤال هو هل على الشعب المصري أن يختار بين الاثنين؟ السؤال مهم لأننا أذا قررنا التضحية بالديمقراطية في سبيل التنمية بينما في حقيقة الأمر ليس هناك ضرورة للاختيار بين الاثنين نكون بذلك قد تخلينا مجاناً عما لا داعي للتخلي عنه. دعونا نتوجه بهذا السؤال إلى حقل التنمية الاقتصادية، ذلك الحقل الذي يستفيد من نظريات علوم الاقتصاد والسياسة والاجتماع لكي يضع يده على الشروط التي تؤهل بلد ما للنهوض الاقتصادي. هل السلطوية السياسية أفضل للتنمية من الديمقراطية؟ في الحقيقة ليس هناك إجابة قاطعة في حقل التنمية. فهناك خبراء في التنمية يؤكدون على أن الديمقراطية مفيدة للتنمية بينما هناك آخرون يقولون بأن الديكتاتورية أفيد على الأقل في مراحل التنمية الأولى، بينما هناك فريق ثالث يجزم بأنه ليس هناك علاقة حتمية بين الديمقراطية والتنمية، لأن هناك تجارب تنموية ناجحة في ظل الديمقراطية وأخرى ناجحة في ظل الديكتاتورية.

كاتب هذه السطور يميل للإجابة الثالثة. وتطبيقاً على الحالة المصرية هو لا يرى أن الديمقراطية ستؤدي بالضرورة إلى التنمية الاقتصادية. وعلى هذا فهو لا يرهن الحرية بمدى فائدتها للتنمية وإنما هي يجب أن تظل مرغوبة في حد ذاتها. فنحن لسنا حيوانات اقتصادية. بعبارة أخرى، حتى ولو كانت الديكتاتورية أفيد للتنمية الاقتصادية من الديمقراطية فإنه سيتمسك بالديمقراطية لأن الثراء بدون حرية ولا كرامة إنسانية لا يساوي الكثير.

للقارئ الكريم أن يشك في أن كاتب هذه السطور لديه رفاهية وضع قضية الديمقراطية على سلم الأولويات، وأنه لم يعرف الجوع ولا ينام في أرق خائفاً أن يعجز في اليوم التالي على توفير الحد الأدنى لنفسه ولأسرته. لكن هذا لن يغير في الأمر شيئاً. لأنني لو أعدت ترتيب أولياتي فجعلت من التنمية الاقتصادية القضية الأم التي يرخص لها الغالي والنفيس فذلك لن يدفعني للتسامح مع الديكتاتورية في مصر لسبب بسيط وهو أن الحالة المصرية هي نموذج لفشل مزدوج في التنمية كما في الديمقراطية. دعونا نصارح أنفسنا بالحقيقة.. الديكتاتورية في مصر لم تكن مفيدة للتنمية. من يقول بأننا يجب أن نؤجل الديمقراطية لكي نسرع الخطي في التنمية الاقتصادية عليه أن يشرح لنا لماذا يمكن للسلطوية أن تؤتي ثماراً تنموية غداً وقد فشلت طوال ستين عاماً.
الخلاصة التي استراح لها عقل وضمير كاتب هذه السطور هي أن التنمية الاقتصادية الناجحة في البلاد الفقيرة التي عرفت الرأسمالية والحداثة بشكل متأخر تعتمد إلى حد كبير على قوة الدولة في هذه البلاد، أي على مدى كفاءة مؤسساتها العامة في توفير التربة الخصبة للتنمية من بنية أساسية متطورة إلى تعليم إلزامي جيد وإلى نظام قضائي وأمني فعال، إلى أخره. السؤال المهم هنا هو كيف يمكن بناء هذه الدولة القوية؟ في الواقع الدولة صناعة بشرية وليست هبة من السماء مثل النفط والماء. الدولة القوية تصبح كذلك بفضل القيادة الناجحة التي تقوم عليها (أي المجموعة الحاكمة) وبفضل التأييد والدعم الذي تحصل عليه تلك المجموعة الحاكمة من بعض القطاعات المهمة في الشعب. هذا التأييد والدعم ينتظم من خلال النظام السياسي الذي من خلاله تقوم المجموعة الحاكمة بحشد الدعم الشعبي لسياساتها كما تستخدمه بعض الجماعات الاجتماعية للتواصل مع المجموعة الحاكمة بغرض توجيهها وترشيد أدائها. لكي نقرب الصورة دعونا نشبه الدولة بالسيارة، فالدولة في نهاية المطاف هي جهاز، ولتكن المجموعة الحاكمة هي قائد السيارة، وليكن المجتمع بطبقاته وجماعاته هو الظروف المحيطة بالسيارة من حالة طرق كما من خدمات مساعدة مثل الميكانيكا. في ضوء ذلك التشبيه يتضح أن السيارة (الدولة) في مصر متهالكة. فهي تصدر أصوات مزعجة ويخرج منها عادم أسود وهي ضعيفة الاتزان بحيث تمثل خطورة على المارة، خاصة وأن الطريق مليء بالمطبات والحفر. لكي تنصلح السيارة يجب أن يوافق السائق (المجموعة الحاكمة) على إيقافها وعلى طلب خدمات مساعدة من الحرفيين (أي من المجتمع أو بعض الجماعات فيه) لإصلاح السيارة. هذا الطلب بالمساعدة يمكن أن يتم بالحسنى وبالإقناع (أي بالديمقراطية) أو بالخشونة والتهديد (الديكتاتورية). الوضع في مصر هو أن السائق لم ينجح في حشد دعم جيد له بواسطة الخشونة. فلماذا لا يجرب الحسنى والإقناع؟

مشكلة التنمية في مصر تكمن في فشل المشروع السلطوي في بناء تحالف متين بين المجموعة الحاكمة وبين جماعات اجتماعية، تحالف قادر على بناء دولة قوية وكفئة. لقد قيل ويقال أن أزمة مصر في “السياسات” التي لو أصبحت أكثر رشادة وقام عليها خبراء أكفاء لانصلح الوضع. ولكن في الحقيقة السياسات التي طبقها نظام يوليو تغيرت عدة مرات.. من الرأسمالية في الخمسينيات إلى الاشتراكية في الستينيات، ومن الانفتاح في السبعينيات، إلى كبح هذا الانفتاح في الثمانينيات، ومن إلى الإسراع في “التحرير الاقتصادي في بداية ومنتصف التسعينيات وإلى أبطائه ووقفه في نهاية العقد وإلى العودة إلى التحرير السريع مع حكومة نظيف منذ 2003. السياسات تتغير من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين والنتائج دائماً محبطة. الأزمة في الحقيقة ليست في السياسات، فمصر دائماً بها دائماً خبرات جيدة ومخلصة قادرة على صياغة سياسات رشيدة. المشكلة الكبرى في السياسة. المشكلة تكمن في عزلة المجموعة الحاكمة عن الشعب وعدم تمتعها بدعم كافي من المجتمع يتيح لها إصلاح الدولة ومن ثم قيادة عملية التنمية. المجموعة الحاكمة قد تحصل في بعض الأحيان على تصفيق من بعض قطاعات الشعب، كما كان الحال تحت حكم الرئيس عبد الناصر، ولكنها لم تستطع أبداً الحصول على دعم منظم ومتواصل من الشعب. والدليل على ذلك أن القناة الأساسية التي تصل المجموعة الحاكمة بالشعب وهي الحزب الحاكم تظل دائماً معطوبة من أول جبهة التحرير ومروراً بالاتحاد القومي والاشتراكي وحزب مصر العربي الاشتراكي ووصولاً إلى الحزب الوطني الديمقراطي. هذه هي المعضلة. والسؤال الآن هو: ألا تكفي ستون سنة من فشل الديكتاتورية في بناء تحالف اجتماعي وسياسي تنموي؟ دعونا نجرب الديمقراطية. فإذا حصلنا عليها وفقط نكون قد فزنا بأجر، أما لو ساعدت الديمقراطية على بناء تحالف تنموي فهذا هو الفوز المضاعف.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *